Thursday, August 16, 2007

مشكلات الأحاديث النبوية و بيانها الجزء 1

تواترت الأحاديث النبوية ان الإنسان إذا مات ووضع في قبره جاءته الملائكة تمتحنه فيما قدم
، فأن كان من المؤمنين المصلحين لقي هنالك عذاباً نكراً ، والعياذ بالله . وري ذلك في أصح كتب السنة . ودل على ذلك أيضاً كتاب الله في مواضع منه . ففي سورة نوح : ?ممـا خطيئاتهم أغرقوا فـأدخلوا ناراً فـلم يجـدوا لهم من دون الله أنصـاراً ?، وفي سورة التحريم : ? فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ?، وفي سورة يس : ? قيل ادخـل الجنة قال يا ليت قـومي يعلـمـون بما غفر لي ربي وجعلني من المـكرمين ? ، وفي آخر سـورة الواقعة إشارة إلى ذلك ، وفي سـورة الأنعـام : ? ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق ?، وقال أيضاً ? وحاق بآل فرعـون سـوء العـذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ?، وقد أمر المصلون أن يستعيذوا في ختام صلواتهم من عذاب القبر ، صحت في ذلك الأحاديث، ورأى فريق من العلماء أن من لم يستعذ من عذاب القبر في صلاته فصلاته غير صحيحة .وقد استشكل الذين يعولون على المادة والحس عذاب القبر ، و قالوا : إننا نشاهد الميت جثة هامدة : لا حراك ، ولا شعور ، ولا إحساس ، ولا أثر لشيء من ذلك . فكيف ينالها ذلك ؟ أم كيف يمكن أن يصح ما ذكـرت روايات عذاب القبر أن المـلائكة يجيئون الميت ، ويقعـدونه ويسألونه ، ويجاوبهم ، فأن كان كافراً ضربوه بمطارق من حديد فالتقت أضالعه ، وإن كان مؤمناً لقي نعيماً وروحاً وريحاناً. قالوا : ونحن لو حفرنا على الميت ما وجدنا شيئاً من ذلك ، بل لوجدناه جماداً لا يحس . قالوا : وهل هذا إلا مخالفة للمشاهدة والحس ؟ ولا نظن دين الإسلام . دين العقل والبرهان . يجوز مخالفة الحس -7-والمشاهدة . فأن الحس هو رسول العقل الذي يؤدي إليه الحقائق ، فلا يمكن الطعن في الرسول وإلا كان طعناً في المـرسل . قـالوا : وهل هذا إلا نظير أن يقال : إن الجمادات والأحجار التي أمامنا تعذب، وتشعر بعذابها ، وتنعم ، وتشعر بنعيمها ، وإنها تتكلم وتفهم الكلام ، وتروح ، وتجيء ؟ وهل مثل هذا يقرب حدود العقل والصواب ؟هذه شبهات على عذاب القبر ، تتردد في صدور أغلب أهل هذا العصر ، وقد تتردد على شفاه فريق منهم ، وربما جعلوها مقادح في الإسلام . أما المشفقون على دينهم ، الحريصون عليه ، إما التربية صالحة ، أو لصلاح فطري فيغضون على ذلك إغضاء ، ويتأثمون من التفكير فيه ، كما يتأثمون من المباحثة فيه ، هروباً من الشك والبعد عن الإيمان .ونحن نقول : إن هذه الشبهات لا تقع إلا في صدر من يحسب الإنسان هو هذا الجسم المادي، والهيكل الترابي، الـذي يذهب ويجيء ، ويتغير في اليوم هو هذا الجسم المادي ، والهيكل الترابي، الذي يذهب ويجيء ، ويتغير في اليوم ، والذي يذهبه الـمرض والجوع ، وتأتي به الصحة والطعام والشراب الذي يتركب من الخبز ونحوه ، والذي يزيد وينقص . فالذي يحسب الإنسان كله عبارة عن هذا فقد تجثم في صدره هذه الشبهات، وقد تقلق باله، وتقضي على راحته . أما من عرف الإنسان حقيقة ، العالم حقيقة ، المؤمن حقيقة ، المتألم حقيقة ، ذلك الأمر السماوي الروحاني ، ذلك الذي هو فوق المادة ، و فوق التراب ، الذي هو الروح ، تلاشت من حوله الشبهات ، وتبددت ، ولم يجد في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه غضاضة ، بل لم يجد بداً منه .وقد أجمعت الأديان ، ولا أستثنى ديناً . وأجمع العقلاء ، ولا أستثنى عاقلاً ـ إلا من لا يؤبه بهم ـ على الإيمان بالعالم الروحاني ، وعلى الإيمان بما وراء المادة . وقد ألف الحكماء الأقدمون من البراهين على ذلك الشيء الكثير ، وذكروا ما فيه مقنع لكل من طلب الحق . وقد كشف هذا العصر براهين جديدة قاهرة على ذلك . -8-براهين على وجود الأرواح :-1) قد أثبت العلماء أن جسم الإنسان يتبدل في حياته عدة مرات . ففي كل بضع سنين يتحلل ويجيء غيره مكانه ، ومعلوماته هي هي لا تذهب ولا تتحلل ، ولا ينسى ما علم في الصغر . وفي هذا برهان ضروري على أن في الإنسان شيئاً غير هذا الجسم المتحلل المتناثر في كل بضع سنين ، يحفظ تلك المعلومات القديمة ، وإلا لتلاشت مع الجسم المتلاشي الفاني ، وإلا لما بقي عنده شيء من معلومات الصغر . وهذا واضح .2) ولقد أثبتوا الأرواح أخيراً إثباتاً لا يقاربه الخلاف ولا الجدل . فقد استحضروها، وكلموها، وكلمتهم، و فهموا منها، وفهمت منهم وقد صار استحضار الأرواح اليوم علماً مدروساً، وخـبراً متواترا لا ينازع فيه . وهـذا يثبت العالم الروحاني، سواء أقيل: إن تلك الأرواح هي أرواح من يخاطبون، أم أرواح شياطين، فهو على كل حال برهان واضح على العالم الروحاني.3) ولقد أصبح الإيمان بما وراء المادة أمراً ضرورياً لا يحاول جحده إلا أهل السفسطة والهرطقة. فان هذه الإحساسات، والعلوم ، والإرادات والصناعات بأنواعها المختلفة الكثيرة، التي لا تحد، ولا تقف عند حد لا يمكن ان تكون كلها للجسم . فإن العلوم وأنواعها ، والصناعات وأنواعها ليست لها نهاية ، ولا يقدر أن تحد. والجسم محدود متناه، صغير الحد ، قريب النهاية ، فلا يمكن أن يقع ما لا يتناهى من المتناهي .4) وإن كل إنسان يؤمن بإحساسه ، وشعوره ، وإدراكه ، وحياته، ورضاه، وغضبه، وكل إنفعالاته. وهذه كلها ليست مادية، ولا من عالم المادة. إذاً هنالك عالم موجود فوق المادة، وفوق حدودها ، وفوق حدود الحواس الخمس .-9-5) وهذا العالم المادي المنظم أحسن التنظيم ، البالغ الغاية في الإتقان على ما فيه من حركات قهرية وإختيارية لا يمكن ان يكون ذلك من تدبير المادة ، وحكمة المادة . وإن المادة لأضعف من ذلك .6) ولو لا الأرواح أو مـا وراء المادة لما وقع كل هذا التفاوت بين أفراد الإنسان، وبين نوع الإنسان، وأنواع الحيوانات. فلا يمكن أن يكون هذا التفاوت العظيم في المعارف والعلوم، والكرم والشجاعة، وسائر الصفات، في هذه المخلوقات منشؤه تفاوت الأجسام واستعدادها. وقد تجد الأضعف جسماً هو الأقوى فهماً وعلماً، والعكس بالعكس. ومادة الأجسام واحدة ، مركبة من عناصر متساوية .7) وإن كل إنسان يقول ( أنا ) يعلم ضرورة أنه لا يقصد بهذه الكلمة ( أنا ) هذا الجسم المادي المركب منه جسم الفرس والهر والجمل والوحش، وإنما يعني بقوله ( أنا ) أمراً فوق ذلك وأشرف منه، هو الروح. 8) و قد تواترت عند سائر الأمم ، مؤمنها وكافرها ، أنه قد وجدت خوارق كـثيرة عـلى أيدي كثيرين مـن الأنبياء و الأولياء والسحـرة والعـرافين والدجالين . هذه أشيا تواتر وجودها بالجملة ، وهي لا يمـكن أن تكون من عمل المادة وحدها فأن ذلك خارج ناموس العالم المادي .9) و إنني أعلم ، وأنا أكتب مـا أكتب أن هذا الذي أكتبه، وأصنفه، وأشعر به ، و أحسه ، وينطوي عليه جسمي من أمـل فياض، وإرادات لا نهاية لها : أعلم أن هذه الأمور ليست لجسمي هذا الترابي النحيل . إنني أعلم ذلك ضرورة . وكل أحد فيما أعلم يجد ما أجد. وأعرف أن ذلك لشيء قد انطوى عليه جسمي، أو انطوى هو على جسمي ، وهو ليس مادياً .10) وإن موت الإنسان وحياته برهان لا ينازع على العالم الروحاني وإلا فلماذا يفقد الحي مرة واحدة ، في لحظة واحدة ، جميع معلوماته ، وشعوره ، -10-وحركاته ، و كل شيء يكون بالحياة . يفقد ذلك كله بأهون الأسباب بمجرد ضربة ، أو لسعة ، أو خنقه ، ثم لا يمكن إعادة هذه الأشياء ولا بعضها إلى هذا الحي الذي فقدها ، إن شأن فوق شأن الماديات . فلا بد أن يكون في هذا الجسـم الذي نقول عليه " مات " شيء يفارقه . فإذا فـارقه قلنا : إنه مات ، وإذا سكن فيه قلنا : إنه حي .وبالجملة فالبراهين على العالم الروحاني لا يحصرها حاصروإذا عرف الإنسان هذا العالم الروحاني الذي هو فوق الحواس ووراء المادة سهل عليه الجواب عن الإشكالات على عذاب القبر ونعيمه ، وعلم أن موت هذا الجسم الترابي ليس بمانع أن تعذب الروح، وأن تنعم، وأن تسعد و تشقى، و إن لم ير ذلك ، كما لا يرى الروح نفسها ، وأنه إذا لم يبصر هذا العذاب والنعيم لم يكن دليلاً على فقدهما في الواقع . كما انه لا يرى الأرواح ذاتها، ولم يكن ذلك دليلاً على عدمها . وكما لم يعد عدم رؤيته لعقله وفهمه ، وشعوره وإدراكه، ورضاه وغضبه، وسائر إنفعالاته دليلاً على فقدان هذه الأمور في نفسها . ومن حسب عدم إحساس الأمر برهاناً على عدم الأمر نفسه قال : إن هذه غير موجودة لأنها غير محسة . وهذا خلاف إجماع العقلاء . وشيء آخر . و هو أنه ليس كل ما لا يحس بأحد الحواس فهو مفقود ، غير موجود . فقد مضت قرون وقرون والناس لا يحسون هذه المخلوقات الحية الحيوانية التي تقضي على حياة الأحياء التي نسميها " ميكروبات " حتى خلق الله " الميكروسكوب " فأحسـوها وعلـموها، وما كانت قبل أن يخـلق هذا " الميكروسكوب " فتبصر و تحس مفقودة في الواقع ، ولا كان جهلهم إياها برهاناً على فقدها. ولن تكون غير موجودة الآن لو لم يوجد " الميكروسكوب " . والعـلماء اليوم يقـررون أن من هذه " المـيكروبات " مـا هـو فـوق " الميكروسكوب " وفـوق الإحساس والإبصار ، ولكنهم لا يرتابون في وجودها ، مستدلين بآثارها ، وبفتكها بالأحياء ، وما نفوها إذ لم يحسوها و يبصروها . إذاً من الموجودات المادية ما لا يحس ولا يبصر . وإذاً لا يصح لنا أن نكذب أخبار الصادقين إذا ما حدثونا بأمور هي فـوق إحساسنا البشري ، وإذاً لا غـرابة ولا محـال من عـذاب القبر -11-وإن لم نره .وشيء آخر ، وهو أن علما العصر يقررون أن النطفة المنوية مملوءة الحيوانات الحية المتحركة ، ونحن لا نحس ذلك ولا نبصره ، ويقررون أن هذه الحيوانات المنوية تعذب وتنعم ، وتموت ، وتقتل، وتمشي ، وتروح ، وتجيء ، ولا نرى من ذلك شيئاً . وقد كان هذا باطلا ومحالا من أن يخرج " الميكرسكوب " . إذا لا يجوز تكذيب الأمر اعتماداً على عدم إحساسه ، ومن فعل ذلك كان غالطا ، كما كان غالطا من كذب بهذه الحيوانات المنوية، لأنه لم ينظر بالميكرسكوب ، أو لأن الله تعالى لم يخلق الميكرسكوب .وشيء آخر . وهو أن علماء النبات حققوا أن للنبات شعوراً بالآلام وبالموت ، وحققوا أن له تنفساً ونفساً ، فما لنا ننكر مثله للأموات أو للأرواح التي انتقلت من دار إلى دار ؟ هذا عين الغبن في التفكير . إن النائم الذاهب في النوم إلى حد الهمود قد يكون في جسمه وفي لحمه ودمه من الحيوانات والأمراض ما يمزق لحمه ، ويمتص دمه ، وينخر عظامه، وما يتقاتل عـلى مـا فيه من إذا ، وهو خامد هامد أمامنا، لا نشعر بشيء من ذلك، ولا نرى شيئاً منه . وما قلنا : إن هذا باطل لأننا لا نحسه ولا نراه . وإن النائم أيضاً قد يجد أشد الآلام ، ويعاني العذاب النكر ، وهو نائم ساكن لا حركة ولا تألم ، ونحن لم نر من ذلك شيئاً . و قد يرى أنه يضرب و يعذب ، فيقوم فزعاً منفجعاً . و قد يجد في بدنه مواقع الإيلام والضرب . وما أنكرنا شيئاً منه لأننا لم نبصره . بل قد يكون الإنسان في أشد العذاب في نفسه وجسمه ، وهو جالس أمامنا كأنه ليس به شيء ، وكأنه لا يحس شيئاً .إذاً الشبهة على عذاب القبر ـ وهي أننا لا نشاهد هذا العذاب ـ شبهة داحضة . وما قال عاقل إن الموجودات منحصرة كلها في المحسوسات وإن ما ليس محسوسا ليس موجوداً.لنفرض أن الله لم يخلق للإنسان حاسة السمع فلم يسمع مسموعاً فهل يكون فقداننا للمسموعات دليلاً على عدمها ، وعلى أنها غير موجودة ؟! اللهم لا . وهل الأصم ـ وهو بيننا كثير ـ ينكر وجود الأصوات ؟! إن إنكار الأصم للأصوات لأنه لم يسمعها كإنكار هؤلاء عذاب القبر لأنهم لم يحسوه و لم يروه .. أو لنفرض أن النوع الإنساني خلق فاقد للحواس -12-الخمس . فلم يحس شيئاً من الموجودات لا سمعياً ، ولا مرئياً ، ولا مطعوماً ، ولا ملموساً ، ولا مشموماً ، فهل تكون هذه الأشياء غير موجودة لأنه لم يحسها بحواسه الخمس ؟! وهل يكون عدم إحساس هؤلاء لعذاب القبر دليلا على فقده في الواقع .ليتريث هؤلاء المولعون بالإنكار والجحود ، وليصغوا إلى ما قدمنا فإن فيه ما يقنعهم . إننا لو قلنا قبل أن يخرج هذا الميكرسكوب : إن الجو والهواء مملوء بالنسمات الحية التي تحدث أنواع الأمراض ، والتي تفترس الأحياء إفتراساً لما صدقنا أحد ، ولما أمكن أن يؤمن بذلك أحد .والخلاصة أن القارئ إذا عرف أمرين ـ ولا بد له من معرفتهما ـ هانت عليه مشكلة عذاب القبر ونعيمه سواء أكان روحانياً جسمانياً أم روحانياً فقط : إذا عرف العالم الروحاني ؛ واعترف به . وما قدمناه يكفيه بأن يعترف . ومن الأمور البديهية أن هذه الحركة في الكون، والنظام العجيب الذي هو دائب عليه ، لا بد أن مصدره أمراً غير مادي . وعرف أنه ليس كل موجود فلا بد أن يحس ويرى . بل الوجود أوسع دائرة من الإحساس . وبهذا يصـير عذاب القبر ونعيمه مـن المسائل الواضحـة ومـن القضايا التي لا بد مـن الإيمان بها .
لولا بنو إسرائيل لـم يخنز اللحم ، ولولا حـواء لم تخن أنثى زوجها الـدهر
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال : " لولا بنو إسرائيل لـم يخنز اللحم ، ولولا حـواء لم تخن أنثى زوجها الـدهر " الإخناز هو التغيير والفساد . و يفسر هذا الحديث بعض الناس بأن اللحم كان قبل بني إسرائيل لا يخنز ولا يفسد ، وإن ترك أزماناً، أي إن طبيعة اللحم كانت غير قابلة للفساد . ثم إن الله عاقب بني إسرائيل بذنوبهم وبطرهم حين ما كان ينزل عليهم المن والسلوى ، فتغيرت طبيعة اللحم وصارت إلى الفساد والإخناز إذا ما ترك اللحم وصـارت إلى الفسـاد والإخناز إذا ما ترك اللحم . قالوا : والله يعاقب على المعاصي كثيراً بالعقوبات الدنيوية ، والمصائب في الأموال والطعام والشراب . وكذا قالوا : إنه لولا حواء وعصيانها وأكلها من الشجرة المحرمة لما عصيت -13-امرأة ، ولما غررت بزوجها . والمراد بالخيانة هنا أنها سولت لآدم أن يأكل من الشجرة لا أنها خانت في عرضها . كلا . والمعنى على هذا أن الله عاقب النساء بعصيان أمهن حواء فجرين على آثارها ، وعصين كما عصت عقوبة وجزاء .وهذا القول بعيد من الشرع بعيد من الصواب ، لا يجوز حمل الحديث عليه ، و لا يجوز الذهاب إليه . فإن هذا مثل أن يقـال : إن النار كانت في زمن بني إسرائيل لا تحرق ، وإن الماء لا يروي ، والطعام لا يشبع . ومن يقبل هذا ؟! إذاً ما معنى هذا الحديث ، وما تأويله ؟فأقول : القول الحق ، والرأي الصواب فيه ، هو ما بعث به إلينا حضرة عالم السنة، ومحي مذهب السلف في دمشق الشام ، الرقيق العلامة محمد بهجة البيطار. وقد سألناه عن الحديث كتابة ، فأرسل إلينا الجواب كتابة .قال حفظه الله " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم . الظاهر المتبادر الذي أفهمه منه أن البركة في الإنفاق ، وأن المحق في الإمساك ، و أن بني إسرائيل كان يأتيهم رزقهم من السلوى كل يوم فيأكلونه لحماً طرياً و يوسعون منه على غيرهم . فلما شحوا به وادخروه ، عوقبوا بفساده وخبثه ونتنه ، ولعلهم كانوا أول من سن هذه السنة السيئة في الناس ، أو اشتهروا بها أكثر من غيرهم ، وكانوا قدوة سيئة لمن جاء بعدهم بحكم الوراثة والتقليد ." فالكلام على ما يظهر لي هو في عمل بني إسرائيل في اللحم ، ولا في طبيعة اللحم من حيث هو لحم ، وأنه لولا هم لما ادخر، ولو لم يدخر لم يفسد والله أعلم . " وأما خيانة حواء لزوجها فيما بدأت به و زينت له من الأكل من الشجرة المنهي عنها . فالخيانة اسم جنس شامل لجميع أنواعها، وتزيين حواء لآدم الأكل من هذه الشجرة الضارة هو نوع منها . ثم توسعت بنات حواء في الخيانة وارتكبن منها كل قبيح كما هي عادة البشـر و طبيعة المجتمع في التفنن بكل نافع وضار على تراخي الزمن ، وتجدد الشئون ، واشتداد البواعث ، وتولد المصالح و المفاسد ، وتنوع البشر إلى غوى ورشيد ، وانقسامهم -14-إلى شقي وسعيد ، وابتلائهم بسوء التربية وفساد العشرة والتقليد." وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد "انتهى جواب الأستاذ بيطار.وهذا وربك هو الجواب الذي تقبله عقول الشباب المتعلم ولا يأباه السواد الأعظم المتعمم ، وهو الجواب الذي يمشي مع الثقافتين الصفراء والبيضاء .وبيان كلام الأسـتاذ حفظه الله أنه قد يكون إدخار اللحـم الذي يترتب عليه فساده وإخنازه مجهولاً للأمم قبل بني إسرائيل، لم يعتادوه ولم يعرفوه، كما قد تكون طرق كثيرة لإدخار اللحم وحفظه مجهولة لآن لأمم عظيمة، وإن كانت معروفة لأمم أخرى. والأمم الآخذة بآفاق الحضارة اليوم تعرف طرقاً لإدخار اللحوم على إختلافها، وإدخار سائر الأطعمة لا تعرفها الأمم البدوية أو الناشئة في الحضارة، فكانت الأمم قبل بني إسرائيل لا تعرف أن اللحوم تخزن و تدخر، فما كانت تفعله، فما كان الفساد ولا الإخناز يتناوله. فلما جاءت بنو إسرائيل ورغس الله لهم النعم والآلاء رغسا، وصب عليهم خيراته وبركاته، وأنزل عليهم المن والسلوى، وهي أنواع من لحوم الطير الفاخرة، تأتيهم صباح مساء، لم يكن شكرهم لهذه النعم التي فضلهم بها على العالمين إلا الكفران، والإمساك، والشح، الذي لا داعي له إلا اللحازة وسوء الجبلة، بخلو وخافوا إنقطاع ما هم فيه من نعيم، ففكروا في الإدخار، فهذاهم شحهم وهلعهم إلى أن خزنوا المأكولات وخزنوا المن والسلوى فأصيب بالفساد والإخناز شأن اللحوم. ولا تنس أن القوم كانوا جاهلين ولا بد طرق الإدخار التي يبقى معها اللحم سليما من الفساد، لأن الناس لم يتسعـوا إذ ذاك في فنون الإمساك وفنون المأكولات سنة النشوء والإرتقاء .هذا مـا كان من بني إسرائيل. فجاءت الأمم بهدهم ، وأخذت مأخذهم فيما إبتدعوا و شرعوا من إمساك وإدخار، فادخر الناس اللحوم فأخنزت كما هي اليوم ، وهذا يشبه قوله عليه السلام " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على إبن آدم الأول كفل من ذلك لأنه أول من سن القتل " وهذا الحديث شبيه بأن نقول : لولا الفرنج لما طار العراقيون والحجازيون والمصريون بالطيارات ، ولما تخاطبوا وبينهم المسافات التي تهلك فيها الأشواط والأصوات . -15-ولا تلازم في هذا بين الأول والثاني إلا إختراع الأول ما تمكن به الثاني أن يفعل . وهو تلازم عادي لا عقلي ، وكذلك لا تلازم بين بني إسرائيل وإخناز اللحم إلا إختراعهم ما به تمكن اللحم من أن يخنز وهو إدخاره . هذا معنى كلام الأستاذ حفظه الله في الشطر الأول من الحديث وهو " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم " .أما الشطر الآخر من الحديث ، وهو " لولا حواء لم تخن أنثى زوجها " فبيان قوله فيه حفظه الله أن طبيعة النساء واحدة ، واستعدادهن واحد في الخلقة والقابلية ، لا فرق بين حواء وغيرها من اللائي جئن بعدها. وقد خلقت حواء وهي أم النساء قابلة للخيانة والخطأ، فخلقت بناتها مثلها في ذلك الاستعداد والقبول، وفي تلك الخلقة والصبغة ، لا تفاوت بين أفراد النساء في ذلك . ولو أن حواء خلقت غير قابلة لذلك لما و قع منها شيء مما ذكرنا لأنها غير قابلة له كما خلقت الملائكة غير قابلة للعصيان و لكانت بناتها غير قابلات ولا مستعدات لشيء منه، فلم يقع منهن شيء، لأن الطبيعة واحدة. وعلى هذا قيل " ولولا حواء مـا خانت امرأة زوجها " أي لو خلقت غير قابلة للخيانة لكانت بناتها مثلها غير قابلات للخيانة ، وإذا لم تكن حواء ولا بناتها قابلة للخيانة لم تقع منهن وهذا بين .والحديث يشرح نظرية من نظريات علم النفس هي إن الاستعداد الفطري في النوع الإنساني واحد في الجديد والقديم . فاستعداد الإنسان الفطري في القرون المظلمة الوسطى مثل استعداده في القرن العشرين . واستعداد الشرقيين المغلوبين على أمرهم المستعمرين من جميع نواحي الاستعمار مثل استعداد الألمانيين والفرنسيين والإنجليز. وإنما يكون التفاوت والاختلاف بالمحيطات والبيئات الحاكمة عـلى الإنسان ويكـون أيضاً باستعمال الاستعداد وهجرانه . ولو أننا أخذنا طفل أعلم فيلسوف انجليزي ووضعناه في أحضان أمة غريقة في الجهالة والتأخر لجاء ذلك الطفل مثلهم جاهلاً متأخراً . ولو أخذنا طفلاً من هذه الأمة الجاهلة ووضعناه في بيت ذلك الفيلسوف الإنجليزي لجاء متعلماً مهذباً ، وربما فاق فلاسفة الإنجليز أنفسهم .هذا هو بيان كلام الأستاذ ، وهذا هو معنى الحديث وشرحه .
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم
روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين صفية بنت حيى أن رسول الله ? قال : } إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم { و رواه مسلم من حديث أنس بن مالك .وقد يستشكل هذا الحديث من يتحكم فيه الحس، ومن يصعب عليه أن يؤمن إلا بما وقع عليه بصره ورآه بكلتا عينيه، ويقول: كيف يدخل الشيطان في أجسامنا ونحن لا نشعر به ؟ أم كيف يدخل جسم في جسم ؟ بل قد يشك في وجود الشيطان لأنه لا يراه .هذا ما يقع فيه كثير من الناس الذين لم يعرفوا من العلوم إلا أنهم سمعوا أن العالم العصري المثقف هو الذي لا يثق بشيء قالته الأسلاف أو جاءت به الديانات إلا أن يلمسه بكلتا يديه أو يسمعه بكلتا أذنيه . ولكن إذا علم هؤلاء أن الروح جارية في الجسم كله مجرى الدم ـ وقد ذكرنا في عذاب القبر براهين علمية على الروح ـ سهل عليهم أن يؤمنوا أن الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم ، وأنه يستطيع ذلك كما تجري الروح فيه كذلك ، وهم لا يحسونها ولا يبصرونها . وإذا علموا أن الأفكار والآراء والإنفعالات كلها تجري في جسم الإنسان وهو لا يحسها ولا يبصرها، هان عـليهم أن يجري الشيطان من الجسم مجرى الدم وان كان لا يحسه ولا يبصره. وإذا عرفوا أن الميكروبات القتالة تجري في جسم الإنسان وفي دمه ولحمه ، وهو لا يحسها ولا يبصرها ، بل ولا يعلم بها لو لا الميكروسكوب هان عليهم أن يؤمنوا بأن الشيطان يستطيع أن يجري في جسمه كما يجري الدم، ومن أنكر جريان الشيطان لأنه لا يحسه كان كمن أنكر الميكروبات لأنه لا يحسها ، لأنه لا ميكرسكوب عنده ، أو لأنه لا ميكروسكوب عنده ، أو لأنه لا يريد أن يرى ذلك .فإن لم يكفيهم هذا قلنا : هذا الهواء وهو جسم مركب من عناصر مادية يجري في الأجسـام ويلج في مسـامها ، ونحن لا نحسـه ولا نراه ، فكيف لا يقدر على مثله الشيطان ؟! وإن لم يكفهم هذا قلنا : هذا الماء يجري في أجسامنا ، وفي دمائنا ويخرج -17-من مسام الأبدان ، و يرشح عرقاً ، ونحن لا نحس خروجه ولا جريانه .فأن لم يكفهم هذا كله قلنا لهم : إن خلقة الإنسان تقضي بأن يجري الشيطان فيها وأن يستطيع ذلك وإن لم نشعر به فأن الغذاء والماء الذي نشربه ونأكله يجري في أجسامنا ولا يشعر أحد منا بذلك، وكذلك الدم يفرقه القلب على أجزاء البدن ، فيجري فيها ونحن لا نحس جريانه فما الذي يمنع أن يكون الشيطان يجري كذلك وإن لم نحسه .فأن لم يكفهم هذا قلنا لهم : هذه الكهرباء الكامنة في الكون السارية في جميع الأجسام ونحن لا نحسها ولا نبصرها إلا في حالة مخصوصة ، وقد ذهبت القرون تلو القرون ، وهذا العالم الكهربائي لا يعلم أحد ، ولا يهتدي إليه أحد ، مع أنه جار سار في الأجسام المحيطة بنا ، بل و في أجسامنا أيضاً . ومثل الكهرباء الأثير .إذاً لا عذر لمن أنكر أن يكون الشيطان موجوداً ، وجارياً في الأجسام ، محتجاً بأنه لا يراه ولا يبصره بعد ذلك كله . ومن ناكر وجاحد بعد ما أسلفنا فهو من الذين يعشقون المجاحدة والمناكرة . وهذا قسم من الناس لا حيلة في إلا الإعراض عنه والدعاء له .
أحاديث انشقاق القمر
روى البخاري ومسلم ومن لا نحصيه من المفسرين والمؤرخين والجامعين لعلامات النبوّة من طرق عديدة لا نقدر على إحصائها ، عن رجال عدة من صحابة رسول الله ? : أن القمر انشق في عـهده عليه السلام في مكـة فرقتين لمـا كـذبه المشركون و طلبوا منه آية و قال ? " اشهدوا " وقد اشتهرت هذه المعجزة فيما بين المسلمين اشتهارا كثيراً ، وإمتلأت بها الكتب ، وتعددت طرقها . حتى قال الحافظ ابن كثير ، في تفسيره وقال غيره إنها متواترة . ونقل إجماع العلماء على وقوعها لم ينقل خلافاً ، وكذلك إبن جرير والبغوي وغيرهما من مفسري السلف والأثر لم يذكروا في ذلك خلافاً .-18-وقد ظاهر هذه الأحـاديث المتواترة القرآن الكريم ، فقال الله تعالى في أول سورة القمر : ? إقتربت الساعة وإنشق القمر وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا اتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر ?.وقد سميت السورة التي فيها هذه الآيات سورة القمر لعظم ذلك وشهرته . والآية صريحة في أن القمر انشق فعلاً له عليه السلام ، وأن المشركين لما رأوه كـذبوا وأعرضوا وقالوا إنه سحر مستمر، وصريحة أيضاً في أن انشقاق القمر من الأمور التي فيها مزدجر للمكذبين وأنها من النذر العظيمة ، ولكن النذر لا تنفع من لم يرد الله أن يهديه حكمة منه بالغة فما تغني النذر .و الآية تدل على وقوع هذه المعجزة في الماضي من وجوه كثيرة : أولها ـ أن الفعل ماض وهو ( وإنشق القمر ) . والعرب وضعت الفعل الماضي لما وقع بحيث لا يفهم عند الإطلاق وإنقطاع القرائن غير حصوله في الزمان الغابر، ولا يـريد القائل غير المـاضي إلا أن يكون مـدلساً ملبساً ، أو يضع قـرينه في كلامه تبين ما أراد ، أو يكون هنالك قرينة . فإذا قال قـائل : " سـافر فلان ، و هـلك فلان " لم يفهم منه غير أن ذلك قد وقع فعلاً . وإذا قال القرآن : ? ولقد أرسلنا نوحاً ? وإبراهيم وموسى وعيسى وفلانا و فلانا من الأنبياء إلى أقوامهم فقالوا : لهم كذا وكذا لم يفهم السامعون غير أن ذلك قد وقـع في الأزمـان الـذاهبة . وكذلك إذا قال : ? إذ قـال الله يا عـيسى إني متوفيك ?، وقال ? وأوحينا إلى أم مـوسى ? وقال : ? وإذ أوحيت إلى الحواريين ? وأمثال ذلك في القرآن لم نفهم منه الاستقبال . ومثله قوله : ? إقتربت الساعة وإنشق القمـر ? يجب أن نفهم أن ذلك قد حصل فعلاً ، كما أنه إذا قال : سوف يقع ، و كذلك إذا قال إمرؤ القيس أو غيره من الشعراء : " فعلت " وجب أن ذلك ماضياً .وإذا أريد بالفعل الماضي الاستقبال جيء بقرينة في الكلام خارجية صريحة . فمثلاً لما قال الله تعالى : ? أتى أمر الله ? و كان مراده الأمر الذي لم يأت . قال : ? فلا تستعجلوه? ، فقوله : ( فلا تستعجلوه ) دليل على أنه أمر لم يحصل بعد . ونظائر ذلك في-19-القرآن الكلام كثير .هذه هي طريقة الكلام التي قام عليها التفاهم والتخاطب بين الناس ، وعلم بها بعضهم مراد بعض ، وبنوا عليها أحكام دينهم ودنياهم وعلومهم وآدابهم وتواريخهم وعلى ذلك آخذوا وعاقبوا ، وأما أن يصمد الصامد إلى الفعل الماضي وفيقول : إن هذا يراد به الآتي، ويصمد إلى الفعل الآتي فيقول إن المراد به الماضي إعتباطاً وبلا دليل فهو أمر يفسد الحقائق وقانون التخاطب والتفاهم، ويجعل الكلام غير مفهوم المراد، كثير التضليل . وعلى ذلك لزم أن نفهم أن قوله ( وإنشق القمر ) فعل ماض وأن القمر انشق حقيقة معجزة لرسول الله ?.فأن قلت : الأمر كما تذكر ، فالفعل ماض والقمر قد انشق في زمنه عليه السلام ، إلا أني أخالفك في معنى انشقـاقه فأزعم أن معنى انشقـاقه هو وضوح الأمر وبينونته ، وهو كناية عن ظهور صدق رسول الله ? وظهور رسالته .قـلت : من الباطل ضرورة من لغة العرب التي يجب تنزيل القرآن عليها أن يقال ( إنشق القمر ) على أن يكون المعنى وضح الأمر و بان . وصعود هؤلاء إلى القمر أسهل عليهم و أقرب إليهم من أن يدلوا بكلمة واحدة من كلام العرب تعبر بانشقاق القمر عن وضوح الأمر ، ولو قال قائل : إنشق القمر ، وكان يريد بقوله وضوح أمر يعنيه ، أو وضوح الدين لكان ملغزاً معمياً بل مدلساً ملبساً . وليس بنافع هذا القائل المحسّن لهذا التفسير أن يكون بعض الناس قاله أو ذهب إليه . فكم من أقوال باطلة ضرورة باعتراف هذا المحسن في اللسان والدين والمعقولات. وأحسب أن هذا التفسير من تفاسير الباطنية، فأنهم يفسرون القرآن تفسيراً باطلاً بداهة، ويزعمون أن اللغة تناصره. ومن تفـاسيرهم أن الصـلوات الخمس عبارة عن أسـمـاء أشخاص ، وكذلك يفعلون بالحج والزكاة والصيام وسائر أسماء الدين، ويدعـون أنهم يخالفوا اللغة ولا الدين . فهل ينفع مفسر إنشقاق القمر بوضوح الأمر أن يقـوله قائل ، أو يكتبه كاتب ، أو يطبعه طابع ؟! .-20-ثم لا أظن بلاغة القرآن تسمح أن تقول ( إقتربت الساعة ) و وضح الأمر ( وإن يـروا آية يعـرضوا ) فأي تناسب بين هذه الأجـزاء ، وأيِّ إقتراب بين إقتراب الساعة ووضوح الأمر .ثانيها ـ لئن جاز أن تؤول هذه المعجزة ، وهي انشقاق القمر ليجوزن أن تؤول معجزات الأنبياء الواردة في القرآن . وجاز أن يصل لتأويل إلى ما ذكره القرآن من أن عيسى كان يحي الموتى ويبرئ الأبرص والأكمه ، ويكلم الناس في المهد . وأن يصل التأويل إلى عصى موسى ويده ، وإلى ناقة صالح ، وإلى إلقاء إبراهيم في النار ونجاته مـنها ، وإلى إلقاء يونس في بطن الحـوت ، وإلى معجزات داوود وسـليمان الكـونية العجيبة . فإذا لم يكن من الصعب تأويل إنشقاق القمر لم يكن منه تأويل معجزات هؤلاء الأنبياء . وقد أولها قوم ورد عليهم هذا الذي أول إنشقاق القمر، وأوسعهم ملاماً وتضليلاً. فهل يصعب أن يقال : إن إحياء عيسى للموتى عبارة عن هدايته الضالين الكافرين ، وإنه كان يبرئ الأبرص والأكمه بمهارته في الطب ، أو يكون المراد بالأبرص والأكمه فاسدوا الأخلاق ، وإبراؤهم عبارة عن تقويمهم . وهكذا إلى أن نأتي على بقية المعجزات .إن من جوز تأويل انشقاق القمر أو أوله فعلا لزمه ذلك لا محالة . ونحن نعلم مع مؤول انشقاق القمر أن هذا فاسد بالإجماع والضرورة .ولا أظن هذا المخالف يخالف أن قوله ( وإنشق القمر ) مع الأحاديث المروية فيه أدل على ما نقول من قوله في عيسى إنه كان يحي الموتى ، ويكلم الناس في المهد على ظاهرها .ثالثها ـ كل الآيات التي بعد الآية المذكورة تدل دلالة صريحة على أن المراد أن القمر قد انشق حقيقة معجزة له علية السلام وهاك الآيات : ? إقتربت الساعة وإنشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ، حكمة بالغة فما تغني النذر ? إلى آخر السورة . -21-أفليست الآيات كالتصريح بما نقول ؟! وهل يكون سياقها منتظماً إلا إذا كان المعنى كـذلك ؟!. أوليس قوله ( وإن يـروا آية يعرضوا و يقولوا سحـر مسـتمـر ) وقوله ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ، حكمة بالغة فما تغني النذر ) برهانا قاهراً وتصريحاً واضحاً؟!. وإلا فأي تجامع في أن يقـول : اقتربت الساعة و سينشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا إلى آخره ؟! أو يقول اقتربت الساعة ووضح الأمر إلى آخره ؟!. ألا يكون هذا الكلام مفككا ضعيف التأليف ؟! .وقد اعترض هنا بعض المنكرين وقال: لو كان المعنى ما تذهبوا إليه لقال: فأعرضوا إلى آخره. أي لجاء به فعلا ماضياً . وهذا الإعتراض ليس بالقوي، لأن المعنى في الآية أنهم كلما رأوا آية أعرضوا وكذبوا فالتكذيب والإعراض دأبهم، وهذا ما يدل عليه الفعل المضارع فانه يدل على الاستمرار والتجدد ، كما نقول فلان يرشد الناس . أما الفعل الماضي بأن يقول: فأعرضوا وقالوا فلا يدل على هذا المعنى ظاهره والمعنى من مقاصد الآية. ومثل هذا الاستعمال شائع في القرآن وفي كل العرب وغير العرب ومثله قوله تعالى: ? إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ? .فالآية التي بعد ( إنشق القمر ) صريحة فيما نقول. وليس بجائز أن نذهب بالكـلام عن سبيله المـألوف المعروف. و فهم الكـلام يلزم أن يراعى فيه أول السياق وآخره . ولا يجوز بحال أن يعرض عما قبله وما بعده . ولا يفهم غرض القائل من قوله إلا بما بعده وما قبله غالباً فيجب الاعتماد على ذلك.رابعها ـ إن مفسري القرآن قاطبة فسروا الآية كما ذكرنا إلا ما يؤثر من روايات شاذة ، و لكل شيء شذوذ. وما صح عن أحد ممن يؤتم به في الدين أنه فسر الآية خلاف ذلك. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره الإجماع على ذلك، ولم يذكر ابن جرير ولا البغوي ولا غيرهما من المتقدمين الأثريين خلافاً فيه. ولينظر القارئ في هذه التفاسير . أما مفسرو المتكلمين فيوجد في تفاسيرهم كل شيء، و يوجد فيها الإختلاف في كل شيء ، حتى في آيات أصول الدين البينة القطعية، وينقلون فيها الروايات التي ليس لها أصول. ولا-22-نجرأ ـ كما لا نظن هؤلاء المخالفين يجرؤون ـ على أن نخالف السلف قاطبة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في تفسير القرآن بأشياء وقعت أمامهم ورأوها أو رآها آباؤهم .خامسها ـ إن قوله ( وإنشق القمر ) معطوف على ( إقتربت الساعة ) . والأول لفظه ماض ، ومعناه كذلك يقيناً ، كما قال في السورة الأخرى ( إقترب للناس حسابهم ) . و قال عليه السلام في الحديث الصحيح المشهور " بعثت أنا و الساعة كهاتين ".إذاً يجب أن يكون المعطوف مثله ماضياً لفظاً ومعنى . ولا نحسب أنه يجوز في كلام العرب أبداً أن يقال : قام فلان ، وقعد فلان . ويكون الأول ماضياً لفظاً ومعنى، والآخر ماضياً لفظاً مضارعاً معنى. فما أعسر أن يوجد ذلك في الكلام. وكذا لو قيل: ذهب فلان إلى الحجاز وذهب فلان إلى اليمن لما جاز أن يكون الأول ماضياً دون الثاني. وهذا أمر بين مشهور . فكذلك فعلا الآية ? إقتربت الساعة وإنشق القمر ? يجب أن يكونا ماضيين معناهما ولفظهما.ثم قد جاء أن حذيفة بن اليمان الصحابي المشهور كان يقرأ ( إقتربت الساعة وقد إنشق القمر ) وهذا لا يمكن أن يحمل على الاستقبال لأن ( قد ) تحقق وقوعه ، وتبعده عن الإستقبال . وهذا معنى قول النحويين: ( قد ) حرف تحقيق .هذه الأمور تدل دلالة يقينية على أن القمر قد انشق معجزة له عليه السلام من جملة معجزاته المادية الكونية الكثيرة. وليعلم المخالفون أن الشكوك والشبهات لا حد لها ولا نهاية تقف عندها ، فمن أعطاهم مقوده رمته في لجج من الضلالات عميقة. فلينج المسلم بنفسه منها وليستعذ بالله من الإرتطام فيها.هذا وقد أنكر قوم من المتفلسفين الملحدين، ومن مشى أعقابهم ـ تقليداً ـ انشقاق القمر، وكذب المسلمون منهم الأخبار الصحيحة، وصرفوا الآية عن وجهها وحرفوها عن موضعها، واعتلوا بعدة شبه نذكرها هنا و نذكر جوابها اختصاراً:-23-القدح في الروايات :- قدحوا في الأحاديث وقالوا:أولاً - إنها مختلفة متضاربة فيجب تساقطها . فبعضها يقول انشق القمر ونحن في مكة . وبعضها يقول : ونحن في منى . وبعضها يطلق الإنشقاق ولا يقيد مكانه ، وبعضها يقول : فرأيناه منشقاًً فوق جبل كذا . وبعضها يقول : فصار ذلك الجبل بين شقتي القمر .ثانيا – إن بعض الذين رووا الحديث لم يشاهدوا الحادث ، إما لصغر أسنانهم، أو لأنهم ليسوا موجودين مكة وذلك كرواية أنس بن مالك وعبدالله بن عباس . فأحاديثهم من قسم مرسل الصحابي، والإرسال ـ وإن كان إرسال صحابي ـ يهون شأن الحديث. لأننا لا ندري عمن رواه ذلك الصحابي، ولعل أخذه عن راو ضعيف.ثالثاً – إن انشقاق القمر حادث عجيب نادر تتوثب الدواعي إلى نقله متواتراً قطعياً، وقد جاء غير متواتر. قالوا: ومن علامات وضع الخبر أن يكون في أمر غريب كبير فلا يكون متواترا. فلو كان القمر إنشق حقيقة ، ورآه الناس لجاء عن الصحابة الكبار كالخلفاء وغيرهم متواتراً ، ولاحتجوا به في مواطن كثيرة لإقامة الدلائل على المخالفين .هذا حاصل الشبهة الأولىوجوابها : إما الأول وهو اختلاف الروايات فهو مما لا ينقضي منه العجب . فهل هنالك تخالف أو شبه تخالف بين أن يقولوا: انشق و نحن في مكة ويقولوا: انشق ونحن في منى ؟! فان قولهم " ونحن في مكة " يريدون أن ذلك وقع قبل الهجرة إلى المدينة، وقد جاء مصرحاً به في بعض الروايات، ولفظه " قبل أن نصير إلى المدينة " ولا شك أن من كان في منى يقول له من هو في الخارج انه في مكة . وفي القاموس " ومنى كأي قرية في مكة " . و أما الرواية التي ذكرت الانشقاق مهملة ، ولم تذكر مكاناً فليس فيها ما يسمى مخالفة للروايات التي ذكرت أنهم كانوا في منى أو في مكة البتة . وهل إذا قال قائل: رأيت رسول الله يعمل كذا، وقال آخر : رأيته يعمل ذلك العمل في مكان كذا يعد هذا-24-تخالفاً موجباً تساقط الروايتين ؟! اللهم لا. وإذا قال قائل: رأيت فلاناً يعمل عملاً. وقال آخر: رأيته يعمل ذلك العمل في مكان ذكره يعد تخالفاً ؟! اللهم لا. فكذا قولهم في بعض الروايات إنه " انشق فوق الجبل " والقول الآخر إنه " رؤى الجبل بين شقتي القمر " ليس فيه تخالفاً مطلقاً فلا ريب أن هذه الشبهة من الشبه الدواحض لدى البرهان.ثم إن الإختلاف في صفة الأمر ليس من الإختلاف الذي يوجب أن يقال: تخالفتا فتساقطتا . فان الاختلاف في صفات . فإن الإختلاف في صفات الشيء ليس اختلافاً في الشيء ضرورة. ولا يوجد أمر نقلي عظيم إلا و يوجد إختلاف في كثير من صفاته وأوصافه . وقد نجد اختلافاً يعد من الكثير في صلاة رسول الله ?، وحجه ، وصيامه ، وجهاده ، وولادته ، وصورته ، وحياته ؛ فهل نقول في ذلك : تخالفتا فتساقطتا ، فنقول إنه لم تكن له صلاة ولا صيام إلى آخره . وكذلك نجد إختلافاً في أحوال الجنة والنار ، والسماء و الأرض، وفي الحساب والعقاب ، وفي الأنبياء ، والملائكة ، والجن . فهل يقال في هذه الأخبار إنها متساقطة كلها، فينبني عليه أن تكون أن تكون هذه الأشياء غير موجودة .وليعلم هؤلاء أن الروايات التي يقال فيها: " تخالفتا فتساقطتا " هي الروايات المختلفة في أصل المعنى . فلو جاء خبر عن رسول الله ? يقول : لم ينشق القمر ، ولن ينشق، وجاءت رواية أخرى عنه تقول : إنه انشق، أو سوف ينشق، لأمكن أن يعد بعض الناس هذا النوع من التخالف المتساقط . وأما القدح الثاني وهو أن بعض الروايات من مرسلات الصحابة فنقول :أولاً ـ هذا لا يقدح في الآية كما لا يقدح في الأحاديث المسندة. وقد صح عن ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما مسنداً أنه رأى ذلك بنفسه . وكذلك صح في صحيح مسلم عن ابن عمر ، وجاء عن غيرهما مسنداً في غير البخاري ومسلم من طرق عدة. فهبوا أن الأخبار الأخـرى المرسلة ليست صحيحة فالآية والأحاديث المسندة كافية في إثبات المسألة . وأيضاً إن الرأي الصحيح أن مرسلات الصحابة رضي الله عنهم حجة لأن -25-المعقول المتبادر أنهم يحدثون عن الصحابة الذين شاهدوا ذلك أو سمعوه من رسول الله ?، وأنهم لا يحدثون إلا عن أهل العدالة المعروفين لهم بالدين والأمانة . وهذا لازم إذا كان الخبر يسند إلى رسول الله ?، ثم أليس مما ينضاف إلى المحال أن يقال إن هؤلاء الصحابة الذين أرسلوا هذه القصة إنما أخذوها من كعب الأخبار أو نظيره ولا يقال: إنهم أخذوها عن الصحابة الذين كانوا ملازمين لرسول الله ? من كبار المهاجرين والذين كانوا في مكة يوم وقعت الواقعة ؟!و كيف يمكن أن يكونوا قد أخذوها عن كعب الأحبار ؟! ووهب بن منبه وغيرهما من مسلمة أهل الكتاب إنما يروون عنهم الإسرائيليات والروايات عن أنبيائهم السالفين، لا أحوال رسول الله ?. هذا هو الغالب المعقول. وهل يمكن أن يكون المهاجرون والأنصار وفضلاء الصحابة يتعلمون سيرة رسول الله ومعجزاته من مسلمي أهل الكتاب التابعين الذين لم يروا الرسول ؟! أوليس من المحال الذي يربأ العاقل بنفسه أن يصدقه أن رسول الله ? تأبيداً لدعوته بين كبار الأنصار و المهاجرين، وهو تحديث كاذب، وحادث لم يكن، فلا يكذبوه في رواية لا صحيحة ولا ضعيفة ؟! ولو فرضنا أن كعباً هو الذي حدث أنساً وعبدالله بن عباس عن هذا الحادث العظيم، ثم لم نجد من رد عليه قوله ولا كذبه لوجب أن نوقن أن الحديث صحيح، ولا يمكن أن يكون كذباً.ويمكننا أن نقرب ذلك فنقول: لنفرض أن جريدة كبرى من جرائد مصر " كالأهرام " كتبت أن الشمس إنشقت شقتين ضحى ، ووقعت إحدى شقتيها على الأرض ، ورآها الناس عياناً ، فهل يمكن أن تقر الأهرام على هذه الأكذوبة فلا يوجد بين الصحف والكتاب من يكذبها ؟! لا شك أنه لا بد من تكذيبها إلا أن تكون صادقة. فكذلك لما أن حدث كعب الأحبار وغيره من التابعين عن هذا الحادث الهائل ، ولم نر من كذبة من أولئك العلماء الذين هم أحرص على تكذيب الكذب من غيرهم ، وجب أن تكون تلك الرواية صحيحة بداهة. وهذا من طرائف هذا البحث ، بل هو من أعظم البراهين على وقوعه .وأما القدح الثالث وهو أنه حادث عظيم فيجب أن يروى متواتراً لو كان صحيحاً ، -26-وفقدان تواتره يدل على إختلاقه. فنقول عليه: هذا يقضي بتكذيب جميع الخوارق التي وقعت لرسول الله ? ولغيره من الصحابة والأتباع، لأنه لم يروا منه شيء متواتراً، مع أنها أشياء تتحفز الدواعي على روايتها.فصح أن رسول الله كان يخطب على جذع نخلة فلما اتخذ منبره وترك الجذع طفق الجذع يحن حنيناً كالطفل حتى نزل رسول الله وضمه إليه وسكته. وصح أن الماء نبع من بين أصابعه. وصح أنه دعا شجرة فجاءته ثم أمرها بالرجوع فرجعت لما طلب منه بعض المشركين دليلاً على نبوته. وصح أنه كان يزيد الطعام والشراب على يديه حتى إنهم كانوا يأكلون منه فيزيد. وصح عنه أن بعض ذوي العاهات كالعميان يجيئونه فيدعو الله لهم فيبرؤون. وصح أنه صعد على جبل أحد ومعه بعض الصحابة فاهتز الجبل فقال " أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". وهذه أخبار كلها صحيحة عند أهل العلم لا خلاف بينهم في صحتها.وجاء أن عمر بن الخطاب نادى ـ وهو يخطب المسلمين فوق منبر المدينة ـ قائد جيوشه وهو في بلاد فارس قال: يا سارية: الجبل ـ يا سارية الجبل ـ فسمعه القائد فانحاز بالجيش إلى الجبل. وجاء أن خالد بن الوليد شرب السم وسلم منه، وأن بعضهم نزل عليه دلو من السماء، وبعضهم كانت تضيء له عصاه إذا قام من عند رسول الله في الظلام. ونظائر هذا عديدة. وليس منها شيء متواتراً التواتر الذي يعنون. فهل تكون كلها كذباً ؟ هذا القدح يقتضي تكذيبها، وهذا لا يقوله من يعرف ما يقول.وأيضاً التواتر إما أن يراد به شهرة المتواتر وذيوعه وكثرة من رووه وعرفوه، وإما أن يراد به روايته بالأسانيد الصحيحة على شريطة المحدثين متواتراً بنفس الأسانيد الصحيحة. إن أريد الأول فلماذا لا يكون حديث الانشقاق متواتراً ؟ فقد اشتهر أي اشتهار، وروي فيما لا يعد من الكتب القديمة والحديثة، وعرفه الخاصة والعامة، وما برح المسلمون يستدلون به على المخالفين، ويضعونه في حساب المعجزات الإسلامية. وكم من الأمور ما يؤمن هؤلاء بأنها متواترة مع أنها لم تشتهر اشتهار انشقاق القمر. وإن أريد -27-الثاني لم يكن صحيحا، فإن المـتواتر لا يشترط فيه أن يكـون تواتره بالأسـانيد الصحيحة ، بل يكون التواتر برواية الكفار والفساق . وأكبر الأمور التاريخية والدينية ليست متواترة على هذا التعريف .وأيضاً الانشقاق جاء في القرآن ، والقرآن متواتر ، وليس يلازم أن يكون التواتر بروايات الحديث، وإنما المراد التواتر فقط، وأما التنصل من ذلك بتأويل الآية فليس بدافع وجود التواتر لأن المتواترات جميعاً يمكن تسليط التأويل عليها . وقد أول أقوام من الملحدين ما في القرآن من شئون البعث، والحساب، والعقاب، والجنة، والنار، وعذاب القبر، وعالم الأرواح، مع أنها متواترة. على أن التأويل يدرك الروايات كما يدرك الآية فلو جاء الانشقاق في الحديث متواتراً كما اقترح هؤلاء لأولوه كما فعلوا في الآية .مخالفة ذلك للقرآن :-وقالوا : إن انشقاق القمر يخالف القرآن و الحديث . فأن المشركين كانوا يطالبون الرسول بالآيات الكونية فلا يجيبهم الله إلى ما طلبوا واقترحوا. وهذا بيم في القرآن، قال في سورة يونس ( و يقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) و مثلها في سورة الرعد. و في سورة طه ( و قالوا لولا يأتينا بآية من ربه . أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى ) و في سورة العنكبوت ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة و ذكرى لقوم يؤمنون ) و في سـورة الأنعام ( و قالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية و لكن أكثرهم لا يعلمون ) و في سورة الإسراء ( و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل الآيات إلا تخويفا ) . وفي البخاري و مسلم أنه قال عليه السلام " ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " قالوا : فهذه النصوص تدل على أن الله لم ينزل على المشركين ما طلبوه من الآيات -28-المادية فكيف نتركها لهذه الروايات ؟!.ونحن نقول : ليس في شيء من الآيات المذكورة ولا الحديث أن الله تعالى لم ينزل على رسوله ولا آية واحدة، ولا أنه لا يمكن أن ينزل، والذي تدل عليه الآيات والإستقراء أن المشركين لم يعطوا من ذلك كل ما سألوه ، وقد ذكر القرآن مطالب المشركين وعنادهم و تعسفهم فيه ، ففي سورة الإسراء ( و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا ) وفي سورة الفرقان ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقي عليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها )فالله لم يعطهم أمثال هذه المطالب ، والآيات المذكورة دالة عليه، وليس فيها البتة الدلالة على أن الله لم ينزل عليه آية كونية مطلقاً. وقد حكى القرآن عن الرسل مع أقوامهم مثل هذا مع أنه قد نزل عليهم آيات كونية. ففي سورة إبراهيم حاكياً عن المشركين ( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ، قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . والسلطان هنا الآية . و في سورة هود ( وقالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) إلى آخر الآيات. فهل دلت هذه على أن الله لم ينزل على هؤلاء آيات ؟!.ويقال أيضاً إن في الآيات المذكورة ما يدل على عكس ما ظن المنازعون فان قوله ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) وقوله } قل إن الله قادر على أن ينزل آية لكن أكثرهم لا يعلمون { وقوله ( وما نرسل الآيات إلا تخويفا ) تشير إلى نزول الآيات إشارة تكاد تكون صريحة. فقوله ( انتظروا ) بعد طلبهم ذلك كالتصريح بأن الإنتظار للآيات وقوله ( قل إن الله قادر على أن ينزل آية ) كالتصريح أيضاً بأن ذلك سوف يكون، وقوله ( وما -29-نرسل بالآيات إلا تخويفا ) كالتصريح أيضاً لأن ( نرسل ) فعل مضارع ولا بد من تحققه في المستقبل فإن لم يكن ذلك على خاتم الأنبياء فعلى من يتحقق. وأيضاً إذا كان إرسال الآيات تخويفاً من الله لعباده فهل يترك قريشاً بلا تخويف وهل يبخل عليهم بذلك ؟ فالآيات تنتج خلاف ما استنتج المخالفون. وقوله ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) لا يدل على أن الله امتنع من أن يرسل آيات مطلقاً ، وإنما معنى ذلك إن الكفار كانوا يطالبون النبي عليه الصلاة والسلام بمثل الآيات التي جاء بها الأنبياء قبله ، كعصا موسى ويده ، وناقة صالح ، وكإحياء عيسى للموتى ، ويقولون إذا جئتنا بذلك آمنا لك وصدقنا فأبى الله عليهم ذلك وقال ما منعنا أن نرسل إليهم الآيات التي طلبوا إلا أنها لن تجدي فيهم ولن يؤمنوا بها كـما لم يؤمن بها من قبلهم من الأمم وهم مثلهم عناداً وضلالا . فالذي أخبر القرآن أن الله امتنع من أن يرسله هو ما كان مثل آيات الأنبياء التي تكون هي الآية الكبرى لأنبيائه لا مطلق الآيات . ودليلنا على ذلك أن الله قد أرسل آيات كثيرة إلى قريش على نبيه عليه الصلاة والسلام بالإجماع ، وليس بممكن أن يأتي رسول بلا آيات تدل على صدق دعواه .وأيضاً إن الآية تقول ( وما منعنا أن نرسل بالآيات ) فلو فرضنا أنها دليل على أن الله لم يرسل آيات لم تدل على أن الله لم يرسل آية واحدة كإنشقاق القمر .وأيضاً مما لا يصار إليه أن يقال : إن الآيات السالفة تدل على أن الله لم يرسل على نبيه محمد ? آية ، فإن القرآن آية الآيات . وقد تواترت الروايات الصحيحة أن الله تعالى قد أعطى رسوله من الآيات المادية الشيء الكثير غير القرآن حتى قدرها بعض العلماء كما في فتح الباري بألف ومائتين وقدرها آخر بثلاثة آلاف. وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً سماه علامات النبوة ذكر فيه طرفاً من معجزاته المادية ذكر فيه بضعاً وخمسين حديثاً، وروى في هذا الباب عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال : } كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا. كنا مع رسول الله ? في سفر فقل الماء فقال : أطلبوا فضلة من ماء فجاؤا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور-30-المبارك والبركة من الله. ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ? ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل {وقد ذكرت هذا الحديث دون غيره لأنه سمى ذلك آيات. وقد ألف أئمة كتباً خاصة سموها علامات النبوة ذكروا فيها أموراً كثيرة من الدلائل المادية على رسالته. و من أنكر جميع ذلك غير القرآن فهو في حاجة إلى أن يقال له تعلم.فهل هذه الآيات تدل على كذب هذه الأخبار كلها ؟! هذا خلاف الإجماع، وخلاف الضرورة، فإننا لا نشك أن ذلك لا يمكن أن يكون كذباً كله... ـ وإن كان يجوز على فرد ذلك ـ وإذا لم تدل الآيات على كذب ذلك لم تدل على نفي انشقاق القمر لأنه واحد منهما.ويمكن تصوير هذا بعبارة أخرى فنقول: الآيات التي ذكروها إما أن تكون دليلاً على نفي الآيات المادية مطلقاً أو تكون دليلاً على نفي نوع خاص منها. الأول لا يمكن أن يصار إليه لأنه عليه السلام قد أوتي آيات مادية كثيرة بالإجماع و التواتر، فنبع الماء من بين أصابعه وسبح له الحصى والطعام حتى سمعوه، وحن الجذع الذي كان يخطب عليه لما أن تركه، وزاد الطعام والشراب، على يديه. وذلك كثير. وإن أريد الثاني فمن أين علم المخالفون أن انشقاق القمر من القسم الذي منع إنزاله ؟! هم يحتاجون إلى دليل.وأيضاً هذه الآيات ليست أبين في النفي من آية الانشقاق وأحاديث الإثبات. فإن آية الانشقاق و أحاديثه نص في معناه. وأما الآيات التي زعموها نافية فلا يقدر المخالف أن يدعي أنها نص في نفي انشقاق القمر. وحينئذٍ ليس من العدالة أن يترك البيِّن الواضح للخفي المتكلف، ومن فعل ذلك فقد فاته الإنصاف والإتزان الفكري.والحديث وهو قوله " ما من نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً " معناه أن سائر الأنبياء كان أكبر معجزاتهم التي يعتمدون عليها في التحدي والإعجاز مادياً، وإن كانت لهم معجزات أخرى علمية ـ وهذا أمر لا ريب فيه ـ وأن أكبر معجزات محمد عليه السلام التي يعتمد عليها في التحدي والإعجاز علمية وهي القرآن، وإن كانت له معجزات أخرى مادية ومعنوية أيضاً. هذا معنى الحديث الذي لا يصح العدول عنه.-31-مخالفة ذلك لسنة الله :-قالوا: إن سنة الله التي لا تبديل لها أن يهلك المكذبين بلا إمهال بعد أن يرسل الآيات المادية. فإذا ما أنزل على أمة من الأمم آية مادية من الآيات معجزة لرسول من الرسل فلم يؤمنوا وأصروا على كفرانهم وضلالهم أهلكهم بلا إمهال، كما أهلك قوم نوح وصالح وموسى وشعيب ولوط وغيرهم. فلو كان القمر انشق حقيقة معجزة له ? لوجب أن يهلك قريشاً لأنهم لم يؤمنوا بعد ذلك بل كذبوا وأعرضوا كما قال في السورة ( و إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم ) إلى آخر الآيات، وهم لم يهلكوا، فلا جرم أن تكون مسألة الانشقاق أسطورة من الأساطير، هذا تحبير هذه الشبهة، وهي غلط لا حيلة فيه وإن حسبها أصحابها معجزة قاهرة. وبيان ذلك أن الله لم يهلك المكذبين الكافرين بمجرد أن كذبوا بعد الآيات سواء أكانت باقتراح أم بغير اقتراح، وإنما أهلك تلك الأمم بعد أن أسرفوا في الفساد وتمادوا في الكفر حتى قنط أنبياؤهم من إيمانهم. فنوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهم له مكذبون كافرون، بعد أن أرسل الله لهم الآيات بأعوام، ولم يهلكهم في هذه المدة المديدة، بل لم يهلكهم إلا بعد أن أيس نوح من إيمانهم و إيمان ذرياتهم، فدعا الله عليهم فأهلكهم كما هو مذكور في القرآن. و كذلك فرعون و قومه لم يغرقوا بمجرد أن كذبوا موسى عليه السلام بعد أن جاءهم بالآيات التي اقترحوها، وإنما أغرقوا بعد أن هرب موسى بقومه، فأتبعوهم لأخذهم وإبادتهم، فأخذهم الله ذلك الأخذ العنيف، و نجى رسوله و قومه . وما كان إغراقهم بمجرد التكذيب، وإلا لما تركوا إلى ذلك اليوم. ومثل هؤلاء قوم صالح، لم يهلكوا بعد أن جاءهم صالح بالآية الكبرى ـ وهي ناقة الله ـ وكذبوا، بل أهلكوا بعد أن عقروها. وما كان مطلق التكذيب موجباً ذلك. ومثل هؤلاء قوم لوط، لم يأخذهم الله ذلك الأخذ بالتكذيب فقط، بل بأن أرادوا أن يعملوا تلك الفاحشة الشنعاء بأضياف لوط، وهم ملائكة الله. وهكذا شأن من أخذه الله. فليس من سنة الله أن يهلك الأقوام لمجرد تكذيب الآيات -32-مقترحة وغير مقترحة. فإذا انشق القمر لرسول الله ? و لم يؤمن قومه لم يوجب ذلك أن يهلكوا فوراً. وليس ذلك من سنة الله كما أريناك. فهذه الشبهة غلط يجب أن يفطن له الذين تعلقوا بها وحسبوها شيئاً وما هي إلا خيال زائل.وهل يمكن أن يقال : إن من حكمة الله وسنته أن يهلك قريشاً لما كفروا بعد أن انشق القمر والله يعلم أنهم سوف يؤمنون قبل موت رسوله ، وسـوف يفتح بهم البلاد والقلوب، وسوف يكونون من حزبه وحزب رسوله المفلحين، وسوف يخلق الله من ذريتهم أولئك العلماء والأبطال والعباد الذين سطر الدهر تاريخهم من نور وفضائل ؟! . كلا فليس إهلاك هؤلاء من سنة الله ولا حكمته وإنما سنته أن يهلك أمثال قوم نوح الذين لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهم لا يزدادون إلا عناداً و كفراً، إلا فاجراً كفاراً. هذه سنة الله وحكمته.ثم قول القائل: من سنة الله ألا يفعل إلا كذا، ولا يمكن أن يترك كذا، ويجب أن يهلك كذا كلام ملآن بالجرأة، وقول لا حد له ولا ضابط به يعرف. فمن أين علم هؤلاء أن الله لابد أن يهلك كل من كذب بعد أن تظهر الآيات ؟!. لا بد من أمر يعرف به. ولو فرضنا أن الله أهلك الأمم الخالية بمجرد التكذيب. بعد أن أتت الآيات، لم نعلم من ذلك إن الله لا بد أن يهلك كل من كذب. أو ليس هؤلاء يتزعمون أن آيات جميع الأنبياء الأولين كانت مادية ؟!. فهل يقولون إن سنة الله التي لا تبديل لها أن تكون كل آيات الأنبياء كذلك ؟!. يكذبه أن معجزة محمد عليه الصلاة و السلام علمية وهي القرآن. أو لبسوا يدعون أن الله قد أباد الأمم لما كذبت أنبياءها، بعد ما جاءتهم الآيات ؟!. فهل كانت سنة الله إبادة المكذبين بعد الآيات ؟!. فقد كذبت قريش رسولهم بعد أن جاءهم بآية الآيات وهي القرآن، فلماذا لم يبيدهم ؟! . أما التفريق بين الآيات المادية والعلمية فلا دخل له في ذلك، لأنه إذا استحق المكذب بالآيات المادية الإهـلاك، كان المكذب بالآيات العلمـية أحق به ، لأن الآيات العلمية كالقـرآن أدل على صدق صاحبها مـن الآيات المادية لأن الأخيرة قد تتحمل التأويل و التشكيك. وهذا المعنى يسلم به المخالف. وما كان إستحقاق الماضين الإهلاك لأن -33-آياتهم كانت من نوع كذا، وإنما كانوا جديرين بذلك لأنهم كذبوا رسلهم، مع أنه ظهر ما يدل على صدقهم، ولأنهم تمادوا في الكفر والمنكرات. فليراع المنازعون هذا الكلام جيداً.مخالفة ذلك لعلم الفلك :-قال فريق من المتفلسفين الملحدين ومن قلدهم : إن الأجرام العلوية لا يطرأ عليها خرق ولا انشقاق، ولو وقع شيء من ذلك لفسد نظام الجاذبية فتناثر العالم، فلا يمكن أن يكون القمر إنشق لذلك.ونحن نقول : هذه شبهة من يجحد الخالق القادر المختار، ومن يجحد جميع الخوارق من المعجزات والكرامات، ومن ينكر قيام الساعة وخراب العالم. لأن ذلك كله خلاف ناموس الطبيعة ـ كما يدعى ـ وهذا القسم من الناس قليل لا يؤبه له، وهو صائر إلى الإنقراض و الزوال، وليس له إلا أن يقال له تعلم. فإن علوم الفلك والطبيعة العصرية الأوربية تنادي بغلط هذه الشبهة، فهي لا ترى مانعاً من خرق الأفلاك بل وفسادها بل يقرر أولو هذه العلوم ما هو أثبت من ذلك في الغرابة. فهم يقولون إن الأرض قطعة نارية إنفصلت من الشمس. وقد يستدل المسلمون منهم على ذلك بقوله تعالى ( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ) . ويفسرون الآية بأنهما كانتا شيئاً واحداً ، وهـذا معنى قوله : ( رتقاً ) ، ثم انشقت الأرض من الشمس ، وهذا معنى قوله : ( ففتقناهما ) ويقولون : إن القمر كان جزءاً من الأرض إنفصل منها. وقد يستدل المسلمون منهم بقوله تعالى ? أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? أي بانفصال القمر منها ـ كما يقولون ـ فإذا كان حصل مثل هذا، ولم يحصل فساد الجاذبية، ولا تناثر للعالم، فلن يحصل ذلك بانشقاق القمر. وهذا بين. فالشبهة باطلة في الأديان كلها، وفي علوم الفلسفة العصرية.خفاء ذلك على أهل الأقطار :-قالوا : أن انشقاق القمر من أعظم الأحداث الكونية التي تتحفز الدواعي إلى نقلها -34-وتدوينها وروايتها، فلو كان ذلك وقع فعلا لذكره أهل الفلك و التنجيم، ولاشتهر في سائر الأقطار أيما اشتهار، وهم لم يذكروه، فخفاؤه عليهم يدل على انه لم يقع.والجواب أن يقال : أن القمر لا يطلع على أهل الأرض كلهم في زمان واحد، بل يطلع على فريق منهم و يخفى عن آخرين، فلا يمكن أن تراه أهل الأرض في زمن واحد جميعا، فإذا انشق لم يلزم أن يراه كل أحد، فلا يلزم ما ذكروه إذاً.وأيضاً إن ذلك وقع ليلاً، حينما نام أكثر الناس واستكنوا في بيوتهم، وقل الخارجون الناظرون إلى السماء. وقع في هذه الحالة لحظة قليلة، في مثلها يقل الناظر الفاطن له.وأيضاً يجوز أن يكونوا رأوه، وفطن له خلق كثير منهم، ولكن خونوا عيونهم وخالوه خيالاً، لاستبعادهم أن يحصل مثله حقيقة، فهم يكادون يرونه من المحالات، فلم يذكره المؤلفون منهم لذلك سواء.برهان ضروري على وقوع هذه المعجزة :-لا شك أن القمر قد شاع في زمن التابعين، واشتهر أيما اشتهار، وحدث به الأئمة منهم الذين قولهم هو القول وحديثهم هو الحديث، وان الناس تلقوه عنهم بالتسليم والتصديق، وحدثوا به هم أيضاً من لا يقدرون من الرواة. ولا ريب انه لم تأت رواية ـ لا صحيحة ولا ضعيفة ـ أن أحداً في ذلك العصر الزاخر بالصحابة والتابعين والعلماء والحكماء كذب ذلك، وقدح في روايته وراويه. هذان أمران أو مقدمتان لا شك فيهما عند من له إلمام بالرواية. فإذا انضم إليهما ما يعلم بالضرورة والتواتر عن أهل ذلك العصر، من العناية بالعلم و نقده وتمييز صادقه من كاذبة، وعليلة من صحيحه، بلا هوادة ولا مصانعة، وانضم إليهما أيضاً أن هذه المعجزة حادث عظيم، وآية كبرى، لا يمكن أن تكون مجهولة خفية على علماء ذلك العصر، لأنها من الأحداث الكونية الظاهرة، ومن المعجزات التي تحدى بها رسول الإسلام قومه وعزز بها دعوته، وجعلها من جملة براهينه على صدق رسالته : إذا علمنا هذه المقدمات الأربع علمنا يقيناً أن هذه المعجزة وقـعت حقاً ، -35-وعلمنا يقيناً انه لا يمكن أن تكون كذبا، وأنها لو كانت كذلك لتوارد عن علماء ذلك العصر من الصحابة و التابعين إكذابها، والرد على ناقلها، ولما أمكن أن تشيع هذه الأكذوبة العظيمة في ذلك العهد، فلا يوجد من يكشفها، مع معرفة القوم وإحاطتهم بأحوال رسولهم وآثاره و آياته الصغيرة و الكبيرة، وإحاطتهم بذلك كله بالدقة النادرة.فمن زعم إن ذلك خفي على علماء ذلك العصر ـ الذي هو أغنى عصور الإسلام بالعلم والعلماء ـ فقد أزرى بالمسلمين أي إزراء.أرأيتم لو كتب كاتب اليوم بأن الشمس قد انشقت معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم، أو أن القمر انشق بعد هجرته إلى المدينة، فهل يمكن أن تمضي هذه الإكذوبة من غير أن يكذبها العلماء و الكتاب ؟!. أنه لا بد أن يكذبوها. و أرأيتم لو كتب كاتب بأن رسول الله هاجر إلى الحبشة، أو انه رأى مصر أو الهند أو العراق، فهل يمكن أن تمضي هذه الأكذوبة من غير أن يكذبها العلماء و الكتاب ؟!. أو لو إن كاتبا كتب أن الشمس أو القمر قد انشق منذ عشرين عاما، ورآه الناس، فهل يمكن أن تمضي هذه الأكذوبة دون أن تكذب ؟!. أو لو إن كاتبا كتب أن الشيخ محمد عبده العالم المشهور ذهب إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، انه لا بد أن يكذب ذلك تلاميذه الذين يعرفون حاله، ولا يجوز أن تمضي هذه الأكذوبة في الناس ولا يكذبها اخصاء هذا العالم . فكذلك لا يمكن أن يكون انشقاق القمر ـ وهو من أعظم الأحداث وأغربها ـ كذبا ويحدث به في زمن التابعين ومن بعدهم ـ وهم كما وصفنا صلاحا وحرصا على العلم ومعرفة بأحوال الإسلام ـ فلا يوجد من يكذبها. وهل هذه من الأمور الهينة التي قد تخفى أو يختص بعلمها فريق دون فريق ؟ ولو أن كاتبا كتب أن رسول الله ? كان قد أعطي ناقة كناقة صالح، أو عصا كعصا موسى، أو يدا كيده، أو أنه عاش في قومه كما عاش نوح، أو غير ذلك من الأمور التي لا يخفى صدقها، كما لا يخفى كذبها، لما عدم ذلك الكاتب من يكذبه، ويرد عليه قوله. وكذا لو حدث محدثون عن مشاهير العلماء و الفلاسفة بأمور كبيرة، يعرف صدقها وكذبها عادة، فلا بد أن يوجد من يكذب الكذب في ذلك من العارفين -36-بسيرة ذلك الذي حدثوا عنه.فمن ذلك نعرف بالضرورة التي لا تكذب انه لو كان انشقاق القمر إسطورة ـ كما يقول هؤلاء ـ لما شاع في عصر التابعين والذين يلونهم كل هذا الشيوع، دون أن يوجد من يكشفه ويرجعه إلى الباطل الذي هو منه. فهذا برهان قاهر على حصول هذه المعجزة على يد أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام.ولنا أن نقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول : لا شك أن أغلب المسلمين كان يدعي أن هذه المعجزة قد وجدت ـ إن لم نقل كل المسلمين. وإن الأحاديث الصحيحة قد تكاثرت في أصح كتب الإسلام بعد القرآن، بل في جميع كتب الإسلام، واشتهر ذلك اشتهارا طبق الآفاق و ذكره جميع الذين ألفوا في علامات النبوة، وجعلوه من آياته عليه السلام الكبرى، وتمدحوا به، وفاخروا به الأمم، وحاجوهم به أيضا. ومع ذلك كله لم يوجد بين اليهود، ولا النصارى، ولا غيرهم من أمم الكفر في ذلك العصر من نازع في وجود هذه المعجزة، ولا من ناكر فيها، أو قال كما قال هؤلاء المسلمون: لو أن القمر انشق حقيقة. لعلمه الناس كافة، ولما خفي علينا و على غيرنا، بل وجب أن نعرفه كما عرفتموه معشر المسلمين، ووجب أن يطلع عليه أهل الأقطار جميعا، وكما اطلع عليه أهل مكة . وبالجملة لماروا فيه هؤلاء الفضلاء ولكن هذا أمر لم يكن منه شيء .ومن هذين الأمرين يبدو لنا، ولهؤلاء الفضلاء انه لا مطعن لطاعن في وجود هذه المعجزة، وانه لا تمكن المجاحدة فيها، وإلا لكان أولئك الكفار الخصوم هم أولى من هؤلاء المسلمين بهذا الإعتراض، وأسبق إليه منهم.أفلا يكون هذا دليلا على ضعف اعتراض هؤلاء على هذه المعجزة كما كان إعراض العرب عن معارضة القرآن الكريم ـ وهم الخصوم الألداء ـ دليلا على ضعف معارضة من بعدهم ؟!. انه لكذلك .هل تحسبون انه يوجد لخصوم الإسلام شبهات عليه صحيحة ـ كما زعمتم ـ فلا يدلون بها ولا يعارضون ؟!. وهل يمكن أن تكون اعتراضاتكم هذه صحيحة فيعرض عنها -37-الأعداء ؟! اللهم لاولقد آسفنا وآسف كل مسلم أن يقول بعض من كتب في هذا من المتأخرين المعاصرين، المعروفين بالدين والتحقيق والدفاع عن الإسلام والسنة والفضيلة : إن رواية أحاديث انشقاق القمر تعد هنة من هنات علماء الإسلام وسقطاتهم التي توجب القدح فيهم وفي عقولهم، بل أسرف وقال : قد يكون ذلك قدحا في الإسلام نفسه وعيبا فيه. ونحن لا نقول عند هذا إلا ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا، ونعوذ بك اللهم من الهوى، فإنه لا يفلح يا ربنا من ابتليته بهواه.
حديث السحر
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " سحر رسول الله ? يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله " رواه البخاري و مسلم وغيرهما. وللحديث روايات وبقيةوهذا الحديث صحيح الإسناد. وقد إعتاص على جماعة فكذبوه لا من جهة سنده، بل من جهة العقل ـ كما يقولون. ولهم على ذلك ثلاث شبه :أولها ـ قالوا : هذا الحديث يصدق المشركين في قولهم ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا )ثانيها ـ قالوا هذا يزيل الثقة بما جاء به رسول الله ?. فإنه إذا سحر وخيل إليه أنه يفعل الأمر ـ وهو لم يفعله ـ أمكن أن يخيل إليه أنه أوحي إليه، وهو لم يوحى إليه، وانه بلغ ما أوحي إليه، وهو لم يبلغه. وبالجملة أمكن أن يقع بالتخييل في كل أمور الدين، وأن يصدر عن خيال في كثير مما يأتي وما يذر، فلا يكون في فعله ولا قوله حجة ولا اطمئنان لذلك. -38-ثالثها ـ قالوا : السحر من عمل الشياطين، وصنيع النفوس الشريرة الخبيثة. وهؤلاء لا يتسلطون إلا على من غفل عن الله، ولم يستعصم بأسمائه و صفاته، ومن قصر في الطاعات وأعمال البر. أما من تحصن بعبادة الله، ولهج بذكراه ، وعاذ بحماه ، كالأنبياء، فليس للشيطان ولا للشريرين عليهم من سلطان. قال تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين )هذه شبهاتهم التي اعتلوا بها في توهين هذا الخبر الصحيح. والشبه الثلاث ضعيفة جداً إذا ما تؤمّلتأما الأولى وهي تصديق الكفار فنقول :( أولا ) كان الكفار يقولون : إن محمداً بشر، وإنه فقير ويتيم، وإن أغلب من يتبعه الضعفاء الفقراء. فهل نكذبهم في ذلك ؟!. ويقولون : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) فهل نكذبهم ؟!. ويقولون إنه لا يعلم الغيب ولا يقدر على إهلاكنا ولا على إتياننا بالآيات فهل نكذبهم في ذلك. و يقولون نحن أكثر مالا وولداً من أتباعه، ويقولون إن محمداً أنكر آلهتنا، وسفه أحلامنا، وصدنا عما كان يعبد آباؤنا وجعل الآلهة إلهاً واحداً فهل نكذبهم في ذلك كله ؟! و قد أخبرنا الله عن الأمم الماضية أنها قالت لرسلها ( إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما يعبد آباؤنا ) فهل هم كاذبون في ذلك ؟! بل قد صدقتهم رسلهم ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ) وكان الكفار يقولون: إن الله خالق كل شيء ، وإن أصنامنا لا نخلق ولا تنفع ولا تضر. فهل هم كاذبون في ذلك ؟!. و بالإجمال كانوا يقولون أقوالا كثيرة صادقة لا يجوز أن نكذبهم فيها لئلا نكون مصدقين للكفار. ما قال هذا أحد، بل الصدق يجب أن يصدق، سواء أن يكذب، سواء أكان من كافر أم من مؤمن. وإنما معنى ذلك أن الظالمين كانوا ينسبون إلى الرسل كل ما يظنونه ظن هؤلاء أن السحر يقدح في الرسالة، فكذبوا الأخبار فيه . والظنان خطأ . إذاً ليس ما قاله الكفار كذبا ً. و إذا ليس تكذيبهم في كل شيء قالوه لازماً ، بل لا يكذبون إلا فيما قام البرهان على أنه كذب ، ولا يخالفون إلا فيما قام الدليل على مخالفته رشد ، وهذا أمر لا يحوم حوله خلف، فلا يلزم إكذاب الظالمين في مقالتهم هذه حتى تقوم الحجة من العقل أو -39-النقل على أنهم كاذبون . وما علمنا أحدا قبل هؤلاء يستدل على خطأ القول بأن قالته طائفة من الناس ، ولا علمنا من قال إن الكفار لا يصدقون في شيء ما . و مما يبين هذا أن قبل هذه الآية ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) ثم قال تعالى بعد ذلك ( و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ) فهل هم كاذبون في ذلك كله ؟ اللهم لا .( ثانياً ) إننا نعلم إن الكفار لا يريدون بقولهم هذا أن يثبتوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما أثبته هذا الحديث . وهو أن فلانا من اليهود سحره بضعة أيام ، فأدركه شيء من التغير ، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشيء وهو لا يفغله ، ثم أن الله شفاه من ذلك . لنهم لا يريدون ذلك بلا شك . والمخالفون لنا يعلمون ذلك أيضاً . وإنما يريد الكافرون بقولهم هذا أن رسول الله عليه السلام إنما يصدر عن خيال وجنون في كل ما يقول ويفعل ، وفيما يأتي وما يذر ، وأنه ليس رسولا ، وأنه لم يوح إليه شيء ، وأن القرآن ليس من عند الله ، وإنما هو خيال مسحور ، وانفعال مجنون ، وبناء عليه ليس علينا تصديقه ولا أتباعه .فإذا آمنا بما دل عليه الحديث و قلنا : إن الرسول سحر بضعة أيام ، لم نكن مصدقين للمشركين ، ولا موافقيهم فيما أرادوا وعنوا ، لأن الذي عناه الحديث ، ومن صحح الحديث ، غير الذي عناه هؤلاء الظالمون .وإذا تغاير القصدان لم يكن هناك تصديق ولا موافقة . وهل يقدر المخالفون أن يقولوا : إن مراد هؤلاء الذين قالوا ( إن تتبعون إلا رجلا مسحوراً ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم سحر وقتا ما، وناله بعض التغير، ثم أدركه الله بالشفاء ، وحفظ وحيه ودينه من أن يصل إليه شيء من ذلك التغيير والتخييل ؟ أم أنهم يريدون إن هذا القرآن الذي جاء به ، والدين الذي شرعه ، ليس هو كلام الله ، ولا من عند الله ، وإنما هو صادر عن هذيان ، وتغير بال ؟ هذا هو ما يعنون ، و هم كاذبون فيه ، والحديث لا يصدقهم ولا من صدق الحديث . والأمر واضح بين .-40-وأما الشبهة الثانية ، وهي جواز الاختلاط عليه في الوحي فنقول : أولاً ـ نحن ما علمنا عصمته من ذلك ، لعلمنا انه لم يسحر ، ولا يجوز عليه السحر . بل علمنا انه معصوم في تبليغه ببراهين أخرى كثيرة منها أن الرسول لا بد أن يكون معصوما من الخطأ في البلاغ . وهذا البرهان موجود في حالة السحر وغيرها . وإذا كان البرهان على العصمة مما خافوه موجوداً في جميع الحالات لم نخش ما ذكروا ، ولم نجوزه عليه في حين ما . ولا أظن قارئاً يتدبر ذلك جيداً ثم يشك فيه .ثانياً ـ إما أن يكون لدى هؤلاء براهين على أن الرسول معصوم من الخطأ في البلاغ، أم ليس لديهم شيء من ذلك إلا علمهم أنه لا يسحر. فان كان الأول، فماذا يضر وجود السحر، والبراهين المانعة من وجود ما خافوه موجودة في الحالين، وموجودة أبدا ؟ وإن كان الثاني قلنا لهم : ومـن أين علمتم انه لا يسحر ، وانه لا يجوز أن يسحر، وأنتم لا تعلمون عصمته إلا من عصمته من السحر ؟ أي فما البرهان على العصمة من الوقوع في السحر ؟ أليس هذا من التدليل على الشيء بنفسه . و أيضا ـ على الفرض الأخير ـ ما التدليل على عصمته مـن غير السحر ، ومـا الدليل على أنه معصوم من الخطأ في التبليغ ، وقد فـرضنا انه لا برهـان معهم على عصمته من ذلك إلا قولهم انه معصوم من السحر .ثالثاً ـ تواترت الأخبار على إن الرسل ينسون . قال الله عن موسى ( قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ) , وقد صح رسول أنه قال " كانت هذه من موسى نسيانا " , وقال تعالى عنه وعن غلامه ( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) وقال ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما ) و قال لخاتم الرسل ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله انه يعلم الجهر وما يخفى ) , وقد صح أن رسول الله عليه السلام سمع قارئا يقرأ آية فقال " ذكرني آية كنت أنسيتها " , وتواتر عنه عليه السلام أنه نسى في صلاته ، وانه قال ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ) والشبهة التي أوردها على السحر ترد على النسيان ـ إن كانت صحيحـة ـ فما كان جوابا لنا عن السحر . وإذا جاز عليه الاختلاط إذا سحر جاز عليه إذا نسى . فإذا احتمل أن يخيل إليه -41-في التبليغ في حالة السحر جاز أن ينسى في التبليغ ، وجاز أن ينسى بعض ما أوحي إليه وأن ينسى أشياء من القرآن و الدين . وإذا علموا انه معصوم من ان ينسى ذلك أو أشياء منه ، فاليعلموا انه معصوم من أن يقع في التبليغ تخييل ـ وإن خيل إليه في غيره ـ والمسألتان سواء .رابعاً ـ نعلم أن المسحور يمكن أن يخلط في قوله و فعله ، كما نعلم أن الإنسان يجوز يخطئ ، وأن يغلط ، وأن يكذب ، وأن يضل و يغوى . والرسول إنسان ، وقد قلنا جميعاً إنه صلى الله عليه وسلم معصوم من هذه كلها ، مع أنها جائزة في حق الإنسان من حيث هو إنسان. فكذلك نقول: المسحور يجوز أن يخلط ، وأن يلبس عليه في قوله وفعله ، من حيث هو مسحور ، ولكن ذلك لا يجوز في حق الرسول من حيث هو رسول ، وان ناله السحر .وتوضيح هذا نقول: أليس الرسول عليه السلام إنساناً ؟ هم قائلون بلى ولا بد . فنقول ألا تعلمون أن الإنسان ممكن عليه أن يضل و أن يكذب ؟ . فلا بد من أن يقولوا : بلى . فنقول إذاً يمكن أن يقع ذلك من رسول الله عليه السلام لأنه إنسان. فسوف يقولون : لا يجوز ذلك فإذا قلنا لهم : ما الدليل على إمتناعه ؟ فسيقولون : هو الدليل على أن الله عصمه ، وأن الرسول مشروط في حقه ألا يقع منه شيء يخل بوظيفته . فكذلك نقول نحن في السحر كما قالوا سواء . فنقول : المسحور يجوز عليه الاختلاط و لكن الرسول ممنوع من ذلك على أي حال، لأن ذلك يخل بمقام رسالته . وهذا البرهان قاهر لمن تأمله .وأما الشبهة الثالثة ، وهي أن الشيطان لا يتسلط إلا على الضعفة وأصحاب الغفلة فنقول :هذه دعوى مجردة ، لا دليل يسندها ، لا من عقل ولا من نقل ، وهي خلاف المستقرأ المشهور . فقد تواتر عن الأمم ، تواتراً يذبح الشك ، إن الضعيف الحقير قد يتسلط على عقـول الأقوياء العظماء ، بل قد يؤثر كلام الفاجر المهين في عقل التقي القوي، وقد يخدعه ، ويتلاعب بعقله، وقـد يغير مجرى رأيه و فهـمه ، وقـد تغلب المـرأة الأسـيرة الكسـيرة الـرجل الشجـاع على رأيه ، وتصـرفه وفـق رضاها -42-وهـواها ، وقـد تدفـعه في الباطل و الضلال ، فيندفع إليه ـ وهـو يعـلم انه ضلال وباطل ـ بضعفها ولطفها . أو ليست الخمـرة ، وما أسكر ، تسـلب الرشـيد رشـده وتنهب العـاقل عقله ، والحـازم حزمه ؟ وهـل الخمر أغلب سلطانا مـن الشـيطان والساحر . وقد قال القرآن عن أيوب عليه السلام ( إني مسنى الشيطان بنصب وعذاب ) وقص عن آدم وحواء أن الشيطان أغواهما وخدعهما وطردهما من الجنة وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال ـ لما قتل القبطي ـ ( هذا من عمل الشيطان ) , وقال عنه : ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) فـقد أوقعه السـحـرة في التخييل والخـوف . والتخييل والخوف موضعهما القلب ، وهذا السلطان عليه . والأنبياء كلهم كانوا يخافون مما يخافه البشر عادة . فالأنبياء كسائر البشر ، عرضة للأعراض البشرية ، لم يتعدوا أفقها ، إلا أن الله خصهم بالعصمة فيما يوحى إليهم ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد ) و أما الإستدلال بقوله ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) فيقضي بأن يكون جمـيع عباد الله الصـالحين ناجين مـن أذى الشيطان . وهذا خلاف الإجماع والمشاهد والنصـوص السـالفة . والآية تريد بلا شك أن عباده الصـالحين يسلمون مـن إغـوائه وإضلاله كما قال في الآية الأخـرى ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) .هذه حال شبهاتهم التي ردوا بها هذا الحديث الصحيح و هذا جوابها .وبعد فقد يمكن أن يرد على هؤلاء وأن يحتج على جواز السحر للأنبياء بقوله تعالى ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف ) فقد صرحت الآية بأن سحر أولئك السحار قد أوقع نبي الله موسى في التخـييل ، حتى تغيرت أمامه الحقائق ، فحسب الحبال حيات ، و الساكنات متحركات . وكلما صوب إلى الحديث من نقد و شبهة يمكن أن يصوَّب إلى الآية الكريمة . وإذا استطاعوا أن يتسلطوا بسحرهم على حاسة بصره فيسحروها ، استطاعوا أن يتسلطوا على سائر حواسه ولا فرق، فتتغير قدامه الأشياء، ويظنها على غير ما هي عليه. فالآية مثل الحديث. إذاً فالحديث صحيح الإسناد والمعنى، ولا معقول يعارضه كما رأيت. فوجب قبوله، -43-والإيمان به. ولقد وسع الخرق هؤلاء الذين يردون الأخبار الصحاح بأمثال هذه الشبهات الداحضة، وجرأوا الجهال على أن يكذبوا كل ما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظنوا أنهم ينصرون الدين بالقدح في الأحاديث، والله يشهد أنهم لا ينصرونه بذلك ولكن يخذلونه والله المستعان وحسابهم على الله ونسأله أن يهديهم وأن يشفيهم .هذا ولتعلم أن في وقوع هذه الأعراض المتنوعة بالأنبياء ـ وهم خير خلق الله، وأكرمهم عليه ـ فوائد ترجع للعقيدة وغيرها. فإن من علم بأن أنبياء الله تصيبهم هذه الأعراض لم يغل فيهم كما غلت اليهود والنصارى في أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم ، فإن من ظهر الضعف وأمارات العبودية والإفتقار عليه ضعف الافتتان به، وقل الغلو فيه. وظهور القوة والكمال في الإنسان يوقع في الغلو فيه وما الّه النصارى المسيح وأمه إلا لأجل ما وهبه الله من آثار القوة ، مثل إحياء الموتى وغيره . والغلو في العباد خطر على العقيدة . خطر على الإيمان . وما غيّر التوحيد سواه. ولولاه ما رأيت هؤلاء الطائفين بالأضرحة والقبور ، ولما رأيت هذه الفتنة العظمى بالمشايخ و الأولياء رضي الله عنهم ، التي كادت تكون عامة في الأمم الإسلامية .ولولا الغلو لما ارتطم المسلمون فيما قال حافظ إبراهيم يخاطب الشيخ محمد عبده :إمام الهدى إني أرى الناس أحدثوا لهم بدعاً عنها الشريعة تعزفرأوا في قـبور المـيتين حـياتهم فقاموا إلى تلك القبور وطوفواوباتوا علـيها عـاكـفين كـأنها على صنم في الجاهلية عُكّـَفوما ذكر القرآن الكريم عن الأنبياء تلك الأمور التي عاتبهم عليها للتشهير بهم ، والإشادة بأخطائهم ، بل ما ذكر ذلك إلا لأجل ما ذكرنا . وما يقول القرآن ، آمراً أفضل خلقه وخاتم رسله عليه السلام ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) . قل ما أنا إلا إنسان مثلكم أمرض كما تمرضون وأجوع كما تجوعون وأخاف كما تخافون وأموت كما تموتون . وأما المنزه عن ذلك كله فهو الله سبحانه ، وهو إله واحد لا شريك له في ذلك ، -44-فاعبدوه وحده ودعوا ما سواه .وكم ردد القرآن أن الأنبياء يقتلون، ويطردون ، ويعذبون ، ويهانون ، ويمرضون ، ويخافون ، وينال منهم أبلغ الأذاة. ولله في ذلك كله بالغ الحكمة. ومثل هذا حديث السحر. وكم يرد هذا الحديث على هؤلاء الذين حسبوا أن الله قد وكل التصريف إلى رسوله ، وإلى من دونه ، ووهبه القدرة المطلقة ، فراحوا يسألونه كلما يحتاجون إليه ، ويضرعون إليه . عندما ينزل بهم نازل ، راغبين راهبين ناسين أنه عليه السلام ما كان يقدر على الدفع عن نفسه الشريفة حتى ضربوه وأخرجوه وسحروه وبلغوا منه أقصى الأذى وهو في كل ذلك عاجز مفتقر إلى الله . وأين هذا من قول الشاعر :يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممفإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح و القلمإن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلا وإلا فقـل يا زلة القـدم يا سبحان الله ! ما أعظم جهل الإنسان وأشد غفلته ! ولو قرأ المسلمون نصوص دينهم ، وفهموها ، وتدبروها ، وعلموا آثار رسولهم ، وما كان يلاقيه ويصاب به ، وعلموا توحد الله بكل كمال دون الأنبياء والأولياء والملائكة لما أصاب عقيدتهم ما أصابها من تضعضع وخرافات وشبهات . فحديث السحر ونظائره يقوي الإيمان والتوحيد ، لا كما ظن هؤلاء أن فيه خدشاً للدين وأصوله .
حديث الذباب
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول ? أنه قال " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فيه ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء " رواه البخاري وغيره . ورواه أيضاً ابن ماجه والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، ولفظه قال : قال رسول الله ? " في أحد جناحي الذباب سم وفي الآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء "-45-وهذا الحديث صحيح الإسناد لا مقدح فيه لقادح . وقد أنكره قوم طبياً ، وقالوا : ان الذباب يقع على الأقذار والأوسـاخ الملوثة بجراثيم الأمراض ، فيأكل منها ، ويحمل بأطرافه ، فإذا وقع في الطعام ، أو في الشراب رمى فيه من تلك الجراثيم والأقذار التي حملها ، فصار الطعام وباء لا يجوز تناوله . فقالوا : ثم أن الحديث لم يقتصر على ذلك ، بل حض على التزيد من تلك الجراثيم ، فأمر أن يغمس باقي الذباب في الطعام أو الشراب ثم يؤكل . قالوا : ومثل هذا كيف يأتي إليه الشفاء؟! وهل هذا إلا مثل أن يقال : إن في الزبالات المطروحة في الحارات شفاء ودواء ؟! فليس بممكن أن يكون هذا الحديث صحيح المعنى ، وليس بجائز أن يكون رسول الله قاله . ولئن كان قاله ليكونن مخطئاً فيه ، وليكونن من قبل الرأي الذي ليس معصوماً فيه ، قالوا : والأنبياء قد يخطئون فيما قالوه رأياً لا ما قالوه وحياً . وليكونن كحديث تأبير النخل . قالوا : وقد قرر الأطباء أن جيوشاً عظيمة فتك فيها الذباب ، وجعلها فريسة المكروبات التي حملها ورماها فيما يأكلون ويشربون . هذا تلخيص شبهتهم في إضعاف هذا الحديث الصحيح .ونحن نقول على ذلك : لا ريب أن الذباب يحمل الجراثيم الفتاكة ويلقيها فيما يقع عليه من طعام وشراب وغير ذلك . والحديث مقر بهذا مثبت له ، لأنه يقول (( في أحد جناحيه داء )) وفي الرواية الأخرى (( سم )) هذا حق لا نزاع فيه . وإنما الذي يقرره الحديث فوق ما عـرفوا أن فيه شفاء أيضاً لذلك الداء ، أي هو يحمل مرضاً ويحمل علاجه ، ويحمل سماً وترياقا . فمن أين علم هؤلاء أن ذلك الدواء الذي رواه الحديث ليس موجوداً في الذباب ؟! ومن أين علموا أن الذباب لا يحمل شفاء ؟! إن جهلهم لذلك لا يدل على عدمه في نفسه . وهم يعرفون أن عدم العلم بالأمر لا يدل على أنه مفقود في الواقع . هم لا يستطيعون أن يدلوا به ـ والحديث يسلمه لهم ـ أن الذباب يحمل داء فحسب . وما ذكر ليس مما يدفعه العقل أو الطب . لا يدفع العقل ولا الطب أن تجتمع المتضادات في الأمر الواحد ، والجسم الواحد . والطب الحديث يقرر أنه يوجد في الخنزير علاج لبعض الأمراض ، كما يقرر أن فيه مكروبات قاتلة ، وانه يوجد في الأفاعي وغيرها منافع . وقد قرر الطب الحديث أن بعض المكروبات يقتل بعضا ، وان بعضها يموت بما يحي به الآخر ، -46-وقرر انه إذا أريد الوقاية من بعض الأمراض ، كالجدري والحصبة ، وغير ذلك يطعم الحيوان أو الإنسان بسم ميكروب ذلك المرض فلا يناله المرض بإذن الله . أي يؤخذ مكروب مرض الجدري ، ويوضع في سائل مدة ، ثم يصفى ذلك السائل من الميكروب بعد ان يقذف فيه سمه ، ثم يحقن الحيوان أو الإنسان بهذا السائل فيتكون في ذلك المحقون مادة سامة مفترسة لمكروب ذلك المرض نفسه ، فلا يصيبه ، بل إذا أريد حماية السليم من الطاعون حقن جسمه بميكروبات الطاعون المماتة بالحرارة ، فتكون عند ذلك المحقون مناعة من الطاعون ، ومثل الطاعون مرض الهيضة . بل من الأمراض ما تحقن ميكروباته وهي حية في الإنسان للوقاية من المرض ، وذلك مثل مرض الكلب . وهذا كله من معالجة الداء بالداء . ويستظرف هنا قول الشاعر :وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وقال آخر : وداوني بالتي كانت هي الداءوقول ثالث : فربما صحت الأجساد بالعللومن الأمراض ما إذا أصاب مرة واحدة لم يصب أخرى . ومنها ماذا أصاب منع غيره . إذاً ليس غريباً أن يكون بعض ما يحمل الذباب من الأمراض يفترس أنواعاً أخرى منها . وليس محالاً أن يكون في أحد جناحي الذباب حيوانات صغيرة تقتل حيوانات أخرى . هذا أمر ليس محالاً ، وليس مفرداً في بابه . وقد أخبر به الصادق الذي ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) والذي قامت البراهين الحسية والعلمية على أن كل ما صح سنده عنه من شئون الدنيا والطب حق وكلما يتقدم الزمن يظهر صدقه . ولو أخبر هؤلاء أحد أطباء الإفرنج بما دل عليه الحديث لما كذبوه ، بل لما شكوا في صدقه . أوليست الحية قد جمعت في جسمها داء ودواء ؟! ففيها السم القاتل ومن لحمها يركب الترياق الذي يقي ضرر السم ؟! وكذلك النحل فإن في أحد طرفيه العسل وهو شفاء وفي الطرف الآخر ما يخرج منه وهو داء . فحديث الذباب له نظائر كثيرة معروفة .-47-تصحيح الطب الحديث لهذا الحديثمعجزة للإسلام ونبيههذا الذي قدمناه كله على سبيل التقريب ودفع الغرابة والاستحالة أما تصديق الحديث بالنص فهاك ما يأتي :-ألقى طبيب عصري في جمعية الهداية الإسلامية منذ سنة وكسور محاضرة جاء فيها ما حاصله :(( يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة ، فينقل بعضها بأطرافه ، ويأكل بعضاً ، فيتكون في جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب بمبعد البكتريا ، وهي تقتل كثيراً من جراثيم الأمراض ، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حال وجود مبعد البكتريا إلى ناحيته . وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام ، وألقي الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم ، وأول واق منها هو مبعد البكتريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريباً من أحد جناحيه . فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه وغمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة، وكاف في إبطال عملها ))هذا ملخص ما قاله ذلك الدكتور العصري .وفي مجلة التجارب الطبية الانجليزية عدد 1037 سنة 1927 ما ترجمته : (( لقد أطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حين من الزمن ماتت تلك الجراثيم، واختفى أثرها ، وتكونت في الذباب مادة مفترسة للجراثيم تسمى بكتريوناج . ولو عملت خلاصة من الذباب في محلول ملحي لاحتوت على البكتريوناج التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض ، ولاحتوت تلك الخلاصة أيضاً على مادة خلاف البكتريوناج نافعة للمناعة ضد أربعة أنواع أخرى للجراثيم )) .وقد كتب بعض الأطباء الغربيين نحو هذا . فأصبح هذا الحديث الذي عده هؤلاء -48-المتسرعون كذباً وخدشاً في الدين صحيحاً ومعجزة علمية خالدة . فلعلهم بعد هذا يقللون من تسرعهم في إصدار الأحكام ، وفي تكذيبهم ما لم يحيطوا بعلمه . فمن أين لابن الصحراء هذه المسائل الدقيقة الطبية لولا أن الله يوحي إليه ؟! وأما قول هؤلاء على الحديث : إنه من أمور الدنيا التي يجوز أن يخطئ فيها الرسول عليه السلام . فيقال : هل مثل هذا يقال رأياً بدون وحي ؟! ولو قاله بعض الصحابة أو التابعين لقلنا إنه تلقاه ، وإن حكمه حكم المرفوع ، ولا يمكن أن يكون قاله اجتهاداً ، إذ لا يمكن أن يقول ذلك تهجماً من غير رواية . وكل العلماء يقولون ذلك في أمثاله . وياليت شعري كيف قال ذلك وهو يجهله ؟! وكيف عرض أمته لخطر الذباب وما فيه من أمراض ؟! ومن الذي اضطره إلى أن يتهجم على أمور لا يستقل العقل والرأي بإدراكها وفهمها ؟! وكيف يعالج أمته وهو جاهل بأولويات الطب الضرورية ؟! والعلماء يقولون : إن من تعاطى الطب وهو جاهل به فهو ضامن . وروى عنه عليه السلام أنه قال " من تطبب ولم يعرف له طب فهو ضامن " والحكومات تعاقب اليوم فاعل ذلك. نعوذ بالله ! لقد نسبوا أكمل الخلق وأعقلهم إلى ما لا يصح من عاقل . ثم لماذا لم يسعه السكوت عما لم يسعه السكوت غما لا يعلم ؟! أليس ذلك أحوط وأحكم والله يقول ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ؟! ونحن نعلم أن الذين وصموا رسول الله عليه السلام هذه الصمة ، وقالوا إنه قال ذلك برأيه لا يمكن أن يقولوا مثله من قبل عقولهم وآرائهم ، بل إن تورعهم وخوفهم من الإنتقاد يمنعهم من ذلك الهجوم . أو ما كان اللائق به ـ إذا كان الأمر كما يزعم هؤلاء ـ أن يقول : أظن كذا كما قال في خبر تأبير النخل ، لا أن يصدر كـلامه فعل الموقن العالم ؟!. و إذا كان مخطئاً كما توهموا فلماذا لم يرد الله عليه خطأه بعد ؟! وهل يقره على خطأ وهو الأسوة الإمام ؟ ثم إن مقالة هؤلاء قد تدفع غيرهم يوما إلى أن يقولوا : إن جميع أبواب الربا والبيوع والمعاملات والعقوبات الموجودة في السنة هي من هذا القبيل ، هي من أمور الدنيا التي نحن أعلم من الرسول بها . فليس بلازم أن يكون الصواب حليفه فيها ، ولا لازم أن نتبعه فيما قال ، بل وتدفعهم إلى أن يقولوا : إن كل ما في الأحاديث من أحوال الأمم الماضية والآتية ، وكل ما ذكر قبيل الساعة من -49-الأهوال والأشراط ، وما ذكر في الآخرة من الأمور الشديدة : إن ذلك كله قد قاله الرسول رأياً ، كما هؤلاء في الحديث المذكور .إن تكذيب هذا الحديث ، ورمي جميع رواته بالكذب والخطأ الأيسر عندي من أن يقولوا مقالتهم هذه . وما ظنهم لو قال احد مثل قولهم هذا أمام أبي بكر الصديق ، أو عمر بن الخطاب ، أو غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ؟ .إذاً لقد صح هذا الحديث ، وأصبح معجزة من معجزات الإسلام الخالدة .
حديث تأبير النخل
عن طلحة قال : مررت مع رسول الله بقوم على رؤوس النخل فقال " ما يصنع هؤلاء " فقلت يلقحونه فقال رسول الله " ما أظن يغني ذلك شيئاً " قال : فأخبروا ، فتركوه ، فأخبر رسول الله بذلك فقال " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فاني إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله " وعن رافع بن خديج قال : قدم رسول الله عليه السلام المدينة وهم يأبرون النخل فقال " لعلكم لو لم تصنعوا كان خيراً " فتركوه ، فنفضت ، فذكروا ذلك له ، فقال " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا حدثتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " وعن أنس ان رسول الله عليه السلام مر بقوم يلقحون فقال : " لو لم تفعلوا لصلح " قال : فخرج شيصاً ، فمر بهم ، فقال " مال نخلكم " قالوا : قلت كذا وكذا قال " انتم أعلم بإمور دنياكم " روى ذلك كله مسلم في صحيحه . وقد إستدل قوم بهذه الروايات على ان الرسول ليس معصوماً من الخطأ في أمور الدنيا ، وليس واجباً إتباعه وتصديقه فيها . بل قالوا يعرض ما يقول على ميزان النقد كسائر الناس ، فإن جاء موافقاً قبل وإلا رد عليه . فردوا لذلك أحاديث صحيحة في البخاري وغيره .ولا ريب أن هذا مشكل جداً . لأن من أمور الدنيا أبواب المعاملات، والعقوبات ، والحروب ، والمواعظ ، والطب ، وأخبار الأمم الماضية والآتية . فهل يقال : ان رسول الله -50-عليه السلام يخطئ في ذلك ، وإنه ليس واجباً إتباعه فيه وتصديقه ؟! لا جرم ان قولا كهذا معدود من الخروج على الدين وصاحب الدين .إذاً فما معنى هذه الروايات ؟! الجواب أن يقال : هذه الروايات صريحة في انه قال لهم ذلك بعبارة الظن ، وافهم أنه ظنه ظناً مستيقناً . فتدل على أن ما ظنه ظناً يجوز أن يخطئ فيه ، سواء في ذلك الدنيويات ، والدينيات . لكن لا يقر على الخطأ . وأما ما قاله على سبيل الإيقان فلن يكون من ذلك .ويقال أيضاً : الروايات صريحة في أن ما قاله ظاناً من قبل رأيه جائز أن يقع فيه خطأ ، وما قاله عن الله لم يجز فيه ذلك لا فرق بين أمور الدنيا والدين ، فالتفريق بينهما بالطريقة المذكورة ليس صحيحاً .وأيضاً قد قابل القول بالرأي بالتحديث عن الله فقال " لا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله " وقال إذا حدثتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا حدثتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " فـدل على أن ما قاله على سبيل اليقين فهو عن الله ، وهو لازم الأخذ به ، وليس بجائز الخطأ عليه ، ليس بين الدنيويات والدينيات فرق . وهذا خلاف قول هؤلاء الذين يغلطونه عليه السلام في أشياء أصدر قوله فيها موقناً مستدلين بهذا الحديث . وهو رد عليهم لو تدبروا وتريثوا .وأيضاً الأمر الدنيوي الذي يقوله عليه السلام إما أن يكون قاله برأيه ، أو يكون قاله وحياً عن الله . أما الثاني فلا يمكن أن يناله خطأ . وهذا بالإجماع . وأما الأول فهو الذي يمكن أن يصاب بشيء من الخطأ ، كما شهد الحديث .إذاً فالعبارة الصحيحة في هذا المقام أن يقال : الأمور الدنيويات قسمان : وحي عن الله . واجتهاد رأي ( الأول ) معصوم فيه ولا ريب ( والثاني ) هو الذي يجوز فيه الخطأ .وأما إجمالهم الدنيويات كلها بأنها يجوز فيها الخطأ فأمر لا يصح . والحديث الذي استندوا عليه راد عليهم .وأيضاً الأمر الذي قاله الرسول جازماً ، ومات عليه ، ولم يذكر خلافه ، ولا سيما إذا كان من أمور الغيب ، كحديث الذباب وأحاديث الدجال ، وسجود الشمس تحت العرش لا -51-يمكن أن يكون خطأ ، ولا يمكن أن يكون قاله برأيه وظنه . وقد صح عنه عليه السلام أنه قال : " الظن أكذب الحديث " وفي كتاب الله ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) وأنحى باللائمة على الظانين في آيات . وجعله من أخلاق الكافرين ( إن يتبعون إلا الظن ) ( ما لهم به من علم إلا إتباع الظن ) . فليس بممكن أن يهجو الظن والظانين ، ثم يوافقهم على ما هجاهم لأجله .وأيضاً المختار من رأي العلماء أن الأنبياء عليهم السلام قد يخطئون فيما قالوه مجتهدين ، سواء في ذلك أمور الدنيا وأمور الدين . وقد عاتب الله رسوله في مواضع اجتهد فيها . قال في سورة الأنفال ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الحياة الدنيا والله يرد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . وذلك أنهم في غزوة بدر أسروا وجوها من المشركين هم زعماء قريش ، فاختلفوا : أيقبلون منهم الفداء أم يقتلونهم ؟ فكان رأي الصديق ونبي الله أن يقبلوا الفداء ، ورأى عمر أن يقتلوا ، فنزلت الآية تصديقاً وإحقاقاً لقول عمر ، فبكى رسول الله عليه السلام ، و بكى أبو بكر الصديق لذلك . رواه مسلم . و قال تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) . وقال ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى ، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ) . وذلك أنه كان عليه السلام إذا جاءه صناديد قريش وقادتهم ، وجاءه ضعفاء المسلمين كابن أم مكتوم الأعمى أعرض عن الآخرين ، واشتغل بالمشركين ، رجاء أن تصيبهم الهداية ، وهو يحسب أن رضا الله فيما فعله ، فعاتبه عليه . وعن أبي هريرة عن رسول الله ? قال " كانت امرأتان معهما ابنتاهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها إنما ذهب بإبنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بإبنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان ابن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بسكين فأشقه بينكما فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى" رواه البخاري ومسلم . اجتهدا رأيهما في مسألة دينية ، فأصاب أحدهما . وفي سورة الأنبياء : ( وداود -52-وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان ) وهذا النوع كثير في القرآن والسنة . فكذلك حديث تأبير النخل غايته أنه اجتهد فيما لم يوح إليه ، فصار الصواب في خلافه .والقول الفاصل في هذا الحديث أنه عليه السلام إذا قال قولا على سبيل الظن في الدين أو الدنيا فليس بلازم أن يكون صوابا ، بل يجوز عليه الخطأ . على أنه لا يقر على الخطأ بل يبين له الحق في حياته . وأما ما قاله على طريقة اليقين ، ثم لم يذكر خلافا له فليس بجائز بالمرة أن يكون خطأ سواء في الدين وأمر الدنيا . وقد قال القرآن ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) . وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية نزلت في التحاكم إليه في شئون الدنيا . وقال ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا . ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً ) الآية . وقد صح أن الآية نزلت في الدنيويات ، وأن عمر بن الخطاب قتل من لم يرض حكمه عليه السلام فيها . وقال ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . لا نحتاج أن نذكر أن الآية صريحة في أن ما يقوله عليه السلام وحي من الله بلا فرق بين أمر وأمر . وفي سورة الحشر ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فبعد أن ذكر حكم الأنفال ـ وهي من الأمور الدنيوية ـ قال ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فهل ينتهي هؤلاء عن مقالتهم هذه ؟!.وبهذا تم أن قول هذه الطائفة من الناس أن الدنيويات يجوز أن يخطئ فيها إطلاقاً قول لا يقبله الصواب ، وخطوة واسعة إلى الخروج عن حدود الشريعة وتجاوزها . وقد يجيء من يقول ممن يقرءون كلام هؤلاء : ليس بلازم أن يكون الرسول عليه السلام -53-مصيباً في مسائل العقوبات ، والديون ، والحدود ، والزكوات ، وسائر الأموال قائلين : إنه كان في ذلك مجتهداً ، ويحتجون بحديث تأبير النخل كما فعلت هذه الطائفة . وسوف ترى وتسمع .
حديث لا عدوى

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ? " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " . رواه البخاري ومسلم والحديث ثابت في الصحاح عن غير أبي هريرة أيضاً .العدوى هي إنتقال المرض من إنسان أو حيوان إلي آخر . وهذا أمر واقع لا شك فيه . ويدل عليه النص والاستقراء والطب والإجماع .فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام : قال : " لا يورد ممرض على مصح " . والممرض هو صاحب الإبل المريضة والمصح عكسه . أي لا تورد الإبل المريضة على الإبل الصحيحة حذر العدوى . وروى البخاري أم رسول الله عليه السلام قال " فر من المجزوم فرارك من الأسد " وروى مسلم أنه كان في وفد ثقيف القادم على رسول الله مجزوم ، فقال رسول الله " أرجع فقد بايعناك " . وفي الصحيحين أنه عليه السلام قال : " إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فراراً منه " .هذه الأخبار كلها تدل على وجود العدوى . وأما الاستقراء فما زال الناس يشاهدون الصحيح ينتابه المرض إذا خالط المريض، ولا سيما بعض الأمراض، كالجرب ، والجذام ، وبعض الحميات . وأما الطب فقد أجمع قديماً وحديثاً على أن ثم عدوى ، وكلهم ينهى عن مساكنة المريض . وأما الإجماع ففي البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب سافر إلى الشام ومعه الأنصار والمهاجرون فعلموا وهم في الطريق أنه وقع في الشام وباء ، فاستشار عمر من معه : أنرجع أم نمضي ؟ فقالت له طائفة : خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه . -54-وقالت أخرى : معك بقية أصحاب رسول الله عليه السلام ، فلا نرى أن تدخل بهم على هذا الوباء . ثم قفل عمر رضي الله عنه راجعاً بمن معه . فقال أبو عبيده: أفراراً من قدر الله . أرأيت لو نزلت وادياً له عدوتان : إحداهما مخصبه ، والأخرى مجدبة ، أليست إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ؟! . فهم لم يختلفوا في العدوى وإنما اختلفوا : هل يرجعون فراراً منها ، أم يمضون اتكالا على الله ؟ ثم إن الميكرسكوب كشف سبب الأمراض ، وأنها حيوانات صغيرة جداً تحل في الجسم فتقذف فيه سماً ، وترعاه حتى يفسد . والحيوانات تنتقل بالمباشرة والمقاربة . إذاً فما معنى قوله " لا عدوى " ؟ .عنه جوابان : أولهما ـ أن قوله لا عدوى نهي لا نفي والمعنى لا يعد بعضكم بعضاً . أي لا تتعرضوا لذلك بل اتقوه ، واتقوا مكانه . وهذا كقوله تعالى ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي لا يكن ذلك منكم . ومثل قوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " ، وقوله : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " وأشباه هذا كثير . و يصحح هذا الجواب آخر الحديث . فقوله (( لا طيرة )) أي لا تشاؤم معناه لا تتطيروا ولا يقع منكم ذلك . وليس المعنى أن الطيرة مفقودة في الناس. وكذا (( لا هامة )) وهي طير معروف (( ولا صفر )) وهو الشهر المعروف . والمراد لا تعتقدوا في شهر صفر ولا في الهامة ما كان الجاهليون يفعلونه ويعتقدونه . وليس بممكن أن يكون نفياً .وثاني الجوابين ـ أن يكون نفياً لما كان عليه الجاهلية ، لا لنفس العدوى ، لأن أهل الجاهلية كانوا يبالغون في أمر العدوى والتشاؤم ، ويوسوسون فيهما حتى يمتنعون من زيارة المرضى ، والقيام عليهم ، وقد يمتنعون من الأسفار التي أزمعوها تطيراً وتشـاؤماً ، وأنا أعرف عالماً فاضلاً من المحققين أصيب بهذا الوسواس فضر بصحته كثيراً ، وأضناه ، وأنحل جسمه ، حتى إنه ليصافح الأصحاء إذا ما ألجيء إلى ذلك بأطراف أصابعه ، ويجذبها منهم سريعاً خائفاً أن يكونوا حاملين أمراضاً فيعدوه ، ومن رأي هذا الأستاذ أنه لا يصح الدخول على المريض مطلقاً ، ولا زيارته . فقيل له : إن زيارة المريض واردة في الشريعة ، وهي من محاسنها . فقال : إذا زار زائر مريضا وجب عليه -55-ألا يدخل عليه ، بل يقف بعيداً ويسلم عليه بالإشارة . ومثل هذا الأستاذ كثير . ولا جرم أن تشاؤماً يوقع صاحبه في هذا لأعظم ضرراً من الاختلاط بالمرضى ولهذا ينعى الأطباء كثيراً عن المبالغة في الخوف والتشاؤم .فهذا النوع من العدوى هو المنفي المبطل بهذا الحديث ، لا أصل العدوى وهذا مثل قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ) والشفاعة والخلة ـ الصداقة ـ موجودتان على وجه مشروع . والمنفي في الآية هي الشفاعة والخلة التي كان يظنها الكافرون الجاهلون . وكذا قوله ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) وخلال جمع خلة ، وهي الصداقة . وقوله ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ، وقوله ( مالكم من دونه من ولي ولا شفيع ) وهذا كله نفي لما يدعيه المشركون . وكذلك قوله " لا عدوى " هو نفي لما كان عليه الجاهليون الغالون . ويقرب من هذا المعنى أن تسمع قائلاً يقول : في المسلمين خير كثير ، ولهم قوة ، وفيهم علماء وفلاسفة فتقول : ليس فيهم شيء من ذلك ، وأنت لا تعني بذلك الإبطال العام ، وإنما تريد أن تبطل المبالغة التي دل عليها قول القائل .وبهذا اتفقت أقوال النبوة وأحدث النظريات الطبية .وقول عمر بن الخطاب : نفر من قدر الله إلى قدر الله من الكلمات النوابغ الجوامع التي يندر وجود مثلها ، وهي من أسمى ما تصل إليه القرائح البشرية ، ومما تنضى دونها عقول الفلاسفة والحكماء . وهي من الأمثال الطائرة السائرة . وإنه لخليق بأمة تنتهي بدائه أمييها إلى هذه المراقي السامية أن تسود العالم ، وأن تذل لها أعناق الأكاسرة والقياصرة . والمثل الذي ضربه لأبي عبيدة يكاد يكون مشكاة النبوة . فلله عمر ، ولله العرب حكماء علماء كادوا من فقههم يكونون أنبياء !! .
أحاديث الدجال
تواترت الأخبار النبوية في جميع كتب السنة الصحاح وغيرها تواترت لا يدع للريب -56-مكانا انه يخرج في آخر الزمان قبيل الساعة مخلوق فتان كذاب يسمى الدجال ، يخلق الله على يديه أمور تعد عظيمة من الخوارق ، يمتحن بها عباده كما يمتحنهم كل في كل آن ، ويميز بها المنافق من المؤمن ، والثابت العقيدة من مزعزعها . قد روى ذلك عن محمد عليه السلام من لا نقدر على إحصائهم من صحابته رضوان الله عليهم . وخرجه من لا نقدر أن نعدهم من العلماء والمؤلفين في كتبهم . واشتهر بين المسلمين شهرة تغني عن أن يستدل على وجوده ، أو يشك فيه حتى أدخلوه في صلواتهم يستعيذون من كل يوم أكثر من خمس مرات ، ويذكرونه في الليل والنهار ، يسألون الله الوقاية من شره ، والحفظ من فتنته ، قارنين بين الاستعاذة منه والاستعاذة من جهنم لتلازمهما حساً ومعنى ، لأنه حامل راية جنودها ، وقائدهم إليها . حتى أمر رسول الله ـ كما في مسلم ـ بالاستعاذة منه في الصلاة أمراً . ورأى فريق من العلماء أن من لم يستعذ منه في صلاته فصلاته ملغاة . وهذا لاهتمام الشارع به ، ولخوفه على أمته منه ، ولعظم بلواه . أعاذنا الله منه .فهذا الدجال معلوم عند عامة المسلمين علما ضرورياً لا يشكون فيه كما لا يشكون في أن رسول الله عليه السلام ولد في مكة ومنها هاجر إلى المدينة ، وتوفاه الله فيها ، ودفن فيها ، وبنى مسجده فيها ، وكما يعلمون أن الله فتح له مكة ، وأذل به كفار قريش وطواغيت العرب في حياته . بل كما يعلمون أعداد الصلوات وأن منها الجهريات والسريات ومنها الثلاثيات والرباعيات والثنائيات ، وكما يعلمون أوقاتها وهيئاتها بالإجماع . وبالإجمال ليس لديهم شك في خروج هذا الدجال، وفتنته العظمى. ولا شك أن إيمانهم به ، وعلمهم له أكثر من إيمانهم وعلمهم بخروج ابن الزبير على عبد الملك بن مروان ، وقتل الحجاج الثقفي له . على أنه لا يمكن الشك في الأخير ، ومن شك فيه كان أحوج إلى التعليم من المجادلة .وقد استشكل بعض العلماء في هذا العصر ـ الذين يحبون الاستشكال لأنه استشكال، والذين يعشقون خلق الشبهات لحاجات في النفوس ـ أحاديث الدجال وما ذكر عنه، وشككوا فيها، وألبوا الاعتراضات على صحتها. وهذا تشكيك منهم في الضروريات، وإبطال لها بالشبهة النظرية الهزيلة، كما ترى إن شاء الله. وما علمنا أن الأمور المتواترة -57-تهدم بالشبهات والإحتمالات ، كما لا نظن أن هؤلاء الشاكين المشككين يقبلون مثله في رجال التاريخ ، كما لا نظنهم يقبلون الشك في وجود الحجاج الثقفي ، وعبد الملك بن مروان ، والمأمون ، وعنترة العبسي، وامرئ القيس ، والبحتري ، وأبي تمام ، وأمثالهم . بل نحسبهم يعدون الشاك في هؤلاء الرجال . ولو قام قائم ينكر وجود دولة الفاطميين في مصر ، والقرامطة في الإحساء لعدوه من الذين لا تليق بهم مخاطبة العقلاء . ولا ريب أن أخبار الدجال أكثر من أخبار هاتين الدولتين، والعلم بها للخاص والعام أبين من العلم بهما ولو شك شاك في أن الفاتحة تقرأ في أول كل ركعة، أو شك في التكبيرات في الصلاة، أو في القراءة في القيام ، والتشهد في الجلوس لما فرقنا بينه وبين الشاك في ان رسول الله حدث عن الدجال واخبر بخروجه .والحاصل أن الشك في الدجال شك في الضروري ، فلا يقبل ، ولا يعذر فيه أحد . وقد نجد هؤلاء يترنمون بدعوى الإجماع ، والتواتر ، والشهرة إذا ردوا على مخالفيهم . ولا نعتدي إذا قلنا إنهم كثيراً ما يتعثرون بالتناقض ، وكثيرا ما يهدمون قي مكان ما بنوه أزمانا في أماكن أخر . وليس على الله بعيدا أن يرزقهم الاعتدال والقصد . ونحن نذكر اعتراضاتهم ـ بحوله تعالى :الشبه على أحاديث الدجال قالوا : أولا ـ لو أخبر رسول الله ? بأن الدجال خارج قبل الساعة ولا محالة لجعل الناس في أمن من قيام الساعة ما لم يخرج الدجال ، ولما كانوا في خوف مستمر من مفاجئتها إياهم . ولا ريب أن المصلحة في أن يظلوا أبداً خائفين من قيام الساعة ومفاجئتها ليحملهم ذلك على أن يصلحوا ، ويجتنبوا الموبقات وغضب الله .قالوا : ثانياً ـ هذا مخالف للقرآن الكريم لأنه يقول في الساعة ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ولو كان الدجال خارجاً قبلها ، ومن أشراطها لما كان إتيانها بغتة ، بل لكان بعلم .قالوا : ثالثاً ـ هذا الدجال يدعي لنفسه أكبر الدعاوي ، وهي الربوبية . والروايات -58-تخبر أن الله يخلق على يديه الأمور العظيمة ، ويمكن له في الأرض . وليس من سنة الله أن يؤيد الكاذبين ، ولا أن يعطيهم ما به يفتنون ويروجون نحلتهم .رابعاً ـ إن الروايات تحدث أن الله يهبه من الخوارق ما يشبه معجزات الأنبياء . وهذا يقدح في صدق الأنبياء .قالوا : خامساً ـ إن الأخبار فيه متخالفة تخالفاً يوقعها في السقوط ، وألا يعتد بها .قالوا : سادساً ـ هذا الدجال أعظم الفتن التي تقع أمام الساعة ـ كما تقول الروايات ـ فلماذا لم يذكره القرآن ويهـتم بشأنه . وقد ذكر ما هو أقل منه خطراً وخطورة ؟! فلو كان حقاً لما أغفل القرآن ذكره .هذه هي شبههم التي شكوا وشككوا لها في أخبار الدجال ونحن نقول في جوابها سائلين الله العون والسداد :أما الشبهة الأولى فنقول : لئن كانوا في مأمن من أن تقوم الساعة ومن أن تفاجئهم قبل أن يخرج الدجال ليكونن في خوف ووجل مستمر من مفاجئة الدجال الذي وصف بأعظم الأوصاف البشعة . فيحملهم ما يتوقعون من خروج الدجال ، على أن يصلحوا ، وأن يتقوا ، فتحصل النتيجة المطلوبة وهي أن يكونوا خائفين وجلين ، ليكونوا متقين لله صالحين .ونقول أيضاً : بيننا وبينكم الواقع والمشاهد والمستقرأ . أنظروا إلى المحدثين الذين رووا أحاديث الدجال واشراط الساعة ، وآمنوا بها إيمان الموقنين . وأما كانوا أتقى الناس ، وأخوف الناس لله تعالى ، مع أنهم عالمون أن بينهم وبين الساعة تلك الاشراط وذلك الدجال ؟! فهل منعهم ما علموا من ذلك أن يكونوا على ذلك الصلاح والورع ؟! .ونقول أيضاً : لسنا في شك أن في رواية أخبار الدجال على حقيقتها والإيمان بها ما يجنب المخالفات ، وما يزيد المسلم إيماناً بالله ، وتقوى له وفرارا من عصيانه ، ورغبة في طاعته . ويتبين لك مـا أقول إذا ما قرأت هذه الأحاديث على جماعة المؤمنين المصدقين ، ورأيت كيف يتأثرون ، وكيف ينزعجون ، وكيف يرغبون في الدين ، ويرغبون عن المخالفة . وكذا إذا ما قرأتها بينك وبين نفسك مصدقاً بها . فالنتيجة التي -59-تكون في أخبار الدجال وخروجه هي في الحق خلاف قول هؤلاء .وأيضاً قد ذكر الله تعالى في آيات عدة سعة عفوه ، وغفرانه ورحمته ، وكذلك ذكر رسول الله . وهذا قد يثبط بعض الناس عن الطاعات ، وقد يغري بعضهم بأن يرتكب ما لا يصح إعتماداً على سعة هذا الفضل . فهل دل هذا على أن هذه النصوص باطلة وكذب ؟! أو دل على أن التحديث بها غلط ؟! ومثله أخبار الدجال . وقد أخبر رسول الله أصحابه أنه لا بد أن ينصر الله دينه ، وأن يظهره على الدين كله ، وأن الله سوف يفتح لهم البلاد ، ويملكهم كنوز فارس والروم . وهذا كله قبل أن تقوم الساعة طبعاً . فقد جعل أصحابه والمسلمين في مأمن من قيام الساعة . فهل أخطأ في ذلك ؟! وهل كذب فيه ؟! وهل قلل تقواهم ؟! .وأيضاً هذه الشبهة تدل على أن الساعة ليست لها أشراط البتة لئلا يكون الناس في مأمن منها . وهذا خلاف القرآن . قال الله ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ، فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) وقال ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ، يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ) الآية . وقال ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يؤمنون ) . فليتدبر هؤلاء شبهتهم هذه فليس كل ما يكتب علماً .وأما الشبهة الثانية ، وهي مخالفة قوله ( لا تأتيكم إلا بغتة ) . فنقول : مجيء الدجال إما أن يكون علامة على أن الساعة جاءت أو على أنها اقتربت جداً . على الأول يكون مجيء الدجال مجيئاً للساعة وهو بغتة ، فهي مثله بغتة ، ويكون مجيئه كمجيء جزء منها . وعلى الثاني فليس العلم باقترابها يمنع أن تأتي بغتة ، ولا شك في هذا . قال الله تعالى : ( اقتربت السعة وانشق القمر ) وقال : ( اقترب للناس حسابهم ) فهل نافي هذا لقوله ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ؟! وهل نافي عليهم اقترابها بأنها لا تأتيهم إلا بغتة .وأيضاً إما أن يوافقوا على أن للساعة أشراطاً أم لا يوافقوا . فان وافقوا على أن لها أشراطاً ـ وشرط الشيء علامته ـ فالاعتراض الذي أوجدوه على الدجال وارد على الأشراط التي آمنوا بها ، فما كان جوابا لهم هنا كان جواباً هناك . وإن قالوا ليست لها -60-أشراط فقد خالفوا القرآن فهو يقول : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ) ، ويقول : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا عليهم دابة من الأرض تكلمهم ) وقال ( وإنه لعلم للساعة ) .وأيضاً قال في القاموس " البغتة الفجأة . وبغته فجأه " ، وقال " فجأه هجم عليه " إذاً قوله : ( لا تأتيكم إلا بغتة ) معناه لا تأتيكم إلا هجوماً . فهل مجيء الدجال قبلها يمنع أن تأتي هجوماً ؟! ليتدبر ذلك المخالفون .وأيضا الذي في الأحاديث الصحيحة ان الدجال يجيء قبل الساعة ، وليس فيها مقدار الزمن الذي بينه وبين الساعة . والروايات تدل على أن الزمن مجهول وأنه طويل . إذاً لا تزيد روايات الدجال على أنه ينزل قبل الساعة الموعودة . وهل العلم بأن قبل إتيان الشيء إتيان شيء آخر يمنع أن يكون إتيان الآخر بغتة ومجهولاً وبعيداً أيضاً ؟! وصحابة رسول الله كانوا يعلمون أن الساعة لن تقوم حتى يتم الله دينه، ويظهره على الأديان كلها. وهذا الإظهار والإتمام لا بد أن يكون قبل الساعة فهل خالف ذلك قول القرآن ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ؟! .وأيضاً قد صرح القرآن الكريم بأن ياجـوج وماجوج خارجون قبل الساعة ، وأنهم بيننا وبينها . قال في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت ياجـوج ومـاجـوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) ، وفي سورة الكهف ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حفاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور ) فشبهتهم على خروج الدجال تتناول هذه الآيات . ولا جرم ان شبهة تطعن القرآن في صميمه باطلة داحضة . أليس هؤلاء المخالفون يعرفون ان الساعة لا تقوم إلا بعد أمور كثيرة ، وأشياء طويلة ؟! ولا نحسبهم يجوزون أن تقوم اليوم أو غدا أو بعد غد ، مع أنهم يقولون : إنها لا تأتي إلا بغتة .وأما الشبهة الثالثة وهي تأييده بالخوارق ـ وهو الكذاب ـ ومقالتهم إن مثل هذا مخالف لسنة الله . فيقال : سنة الله تأبى أن يعطي الكذاب الخوارق التي تؤيد دعواه الباطلة بغير أن يقرنها بما يكشف حقيقتها وكذبه . أما أن يعطي الكفار والكذابين -61-والدجالين شيئاً من ذلك ، مع إظهار الدلائل على أنهم كاذبون ومضلون ، فليس في هذا مخالفو لسنة الله ، ولا تغرير بعباده . ولقد أعطي الشياطين ، والسحرة ، وكبار الضالين قوة وصحة وغنى ومهارة في علوم الدنيا وصناعاتها ما لم يعطى عباده المؤمنين وأعطى أمم الكفر ما نراه اليوم عزة وسلطانا وسعة وملك لم يكن بعضه اليوم للمؤمنين . بل قد أعطى الشيطان من السلطان على النفوس والعقول والتصرف فيها ، والتغلب عليها شيئا لم يعطه رسله ولا عباده الصالحين ، حتى إنه ليجري من الإنسان مجرى الدم في جسمه ، وأعطاه من طول العمر ما لم ينله غيره من خاصة عباده . وأعطى فرعون وقومه ملكا لم يعطه موسى وأنصاره . وبالجملة فقوة الضلال وسلطانه أقوى من سلطان الإيمان ونفوذه في أكثر الأوقات . وفي مثل هذا يقول القرآن : ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم ) ، وقال : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) ، وقال : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ولآخرة عند ربك للمتقين ) .وفي الحديث الصحيح انه قال عليه السلام " لهم الدنيا ولنا الآخرة " وليس في هذا ما يدل على كرامة ولا على فضل ، كما لا تدل الصحة والمال والشهرة في الدنيا والقوة على شيء من ذلك لصاحبها . وقد أخبر القرآن أن أعداء الله قد تمكنوا من رسله , فقتلوّا منهم فريقاً , وأخرجوا فريقاً آخر من ديارهم , وعذبوا آخرين وهذا غاية السلطان والتمكين . وليس هذا بمخالف لسنة من سنن الله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين ) إلا أنه تعالى لا بد أن يقيم الدلائل على أن هؤلاء الأقوياء المسلطين ضلال من حزب الشيطان . وهذا ما سيفعله بالدجال . فقد كتب بين عينيه " كافر " يقرؤه كل أحد . وأصابه بغيب لازم , ونقصان ظاهر , وهو أنه أعور . وملأه بآيات النقص والضلال ، مع أنه يدعي الربوبية .وهو أيضا سبحانه لا يديم سلطان الضالين بل يملي لهم حيناً ثم يأخذهم أخذاً عنيفاً -62-ويفضحهم . وكذلك يفعل بالدجال .ثم أليس غاية ما في أخبار الدجال أنه ضال كبير يخلقه الله تعالى يأتي بالمنكرات العظيمة يضل به طوائف من الناس ، ناقصي العقول ، عباد الشهوات . ومثل هذا كل يوم نراه . فالله دائماً يرسل المضلين والفاتنين . وما أظن الحضارة الغربية بمخترعاتها ، وصناعاتها ، وسلطانها , ونسائها , تقل عن الدجال إغواء للناس وإفساداً للضمائر .فليس في خلق الدجال مخالفة لما عهد من سنته تعالى . كيف وهو يخرج قبيل أن يخرج عيسى بن مريم عليه السلام , وهو الذي يقتله بعد أن يعيث ما يعيث في الأرض . ونحن نعرف من سنة الله أنه يرسل رسله ليأخذ الطغاة البغاة. كما أرسل موسى لفرعون، وإبراهيم لنمروز . فليس في أن يعطي الدجالين والكذابين والمتنبئين شيئاً من السلطان والقوة والخوارق ـ إذا ما أظهر كذبهم وحقيقتهم ـ تأييد لهم مطلقاً .ثم هؤلاء كثيراً ما يردون الأمور الثابتة والأخبار الصحيحة اعتماداً على هذه الدعوى العريضة التي يترنمون بها دائماً , وهي سنة الله . والله يعلم أن القوم لا يعرفون سنة الله , ولا يحيطون بشأنه .وأما الشبهة الرابعة وهي قولهم : إن الله يعطيه ما يشابه معجزات الأنبياء ، وهو يقدح في صدقهم فيقال : إن الفرق بين معجزات الأنبياء ، وبين ما أعطاه الدجال كالفرق بين الدجال والأنبياء أنفسهم . ولا يسوى بين معجزات الأنبياء وخوارق الدجال إلا من سوى بين السحر والكهانة ، وبين معجزات الأنبياء . إنه أعطى ذلك الدجال ما أعطاه من الخوارق الزائلة ، وأظهر الدلائل في ذاته ودعوته , وفي كل شيءٍّ منه على أنه كذّاب ، وأنه ضال وخبيث . فكتب بين عينيه " كافراً " وأصابه بالعور ، وأحاط به النقصان من كل جانب ، في حين أنه يدعي الإلوهية لا النبوة . وأما الأنبياء فأعطاهم المعجزات القاهرات الخالدات ، وأعطاهم ما يدل على أنهم صادقون ، وعلى أن كل ما يدعون إليه حسن مقبول . وقد أعطى الله السحرة أشياء خارقة عجيبة . وكذا المتنبئين . فقد نزل عليهم الشياطين يساعدونهم في كثير على ضلالهم وإغوائهم وما كان ذلك قادحا في صدق الأنبياء . وأخبر القرآن أن -63-سحرة فرعون سحروا الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم . فألقى موسى عصاه فإذا هي تبتلع كل ما يأفكون . فبان كذبهم وخروا له ساجدين وانهزم المعاندون وزهق الباطل وعلت كلمة الحق . وكذلك يفعل الدجال يعيث في الأرض فساداً شأن المفسدين ، كما نراه اليوم، وكما نعلمه قبل اليوم وبعده، حتى إذا أنزل عيسى عليه السلام قتله وأخزاه وأذابه . ثم ليس ما أعطاه الله بمشابه ما أعطاه الأنبياء ، بل هو أحقر من ذلك وأهون على الله أن يفعله له . وما زاد على أن يكون ساحراً ، أو شبه ساحر . وقد ورد في بعض الروايات أنه ساحر . وثبت في الصحيح أنه قال عليه السلام " إن معه جنة وناراً . فالذي يراه الناس جنة هو نار ، والذي يراه الناس ناراً هو جنة " وهذا حال السحر . ولا يسوى بين ما أعطى الله محمد عليه السلام وإخوانه من الأنبياء وما سوف يعطى الدجال إلا من أصيب بعقله .على أن هؤلاء لو تدبروا لعلموا أن خروج الدجال على ما وصفت الأحاديث يصدق الأنبياء ، ويقوي شأنهم ، ولا يقدح فيهم كما حسب هؤلاء . فانه إذا خرج كما أنبأ عنه رسول الله عليه السلام ـ بعد القرون الطويلة المجهولة ـ كان هذا من أعظم الأعلام على أن رسول الله عليه السلام صادق ، وأنه يوحى إليه ، وأنه لا يمكن أن تكون هذه المعلومات المحجوبة بأقفال الغيب أدركها بعقله .فخروج الدجال ـ كما وصفت الأحاديث ـ لا يقدح في الأنبياء، ولا في صدقهم ، بل هو معجزة من معجزات الأنبياء ، وعلم من أعلام نبوءاتهم فليفطن المخالفون .أما الشبهة الخامسة وهي إختلاف الروايات ، وأن اختلافها يوجب تساقطها فيقال :هذه الشبهة من أعجب العجب . إننا نعلم أن جميع الأمور الهامة العظيمة لا بد أن يقع في وصفها اختلاف وتضارب أيضاً ، كما وقع في الدجال . فإذا قرأنا تاريخ عمر بن الخطاب , أو أبي بكر الصديق ، أو عبدالملك بن مروان ، أو المنصور ، أو ترجمة أمريء القيس ، أو المتنبئ ، أو الإمام الشافعي ، أو ابن تيمية ، أو غير هؤلاء من مشهوري الرجال وعظماء التاريخ ، وجدنا اختلافاً كثيراً في صفاتهم ، وفي أعمارهم ، وتواريخ موتهم ، وموالدهم ، وأماكن حياتهم ، وغير ذلك . فهل يوجب هذا الاختلاف أن نشك في -64-وجودهم ، أو ننكرهم ، كما جعل هؤلاء الفضلاء الاختلاف في شيء من صفات الدجال موجباً لأن يشكوا فيه وفي مجيئه ؟! أظن ذلك لا يرضاه أحد . بل لو نظرنا في تاريخ الأنبياء وسيرهم عليهم السلام لوجدنا الاختلاف في بعض ذلك .إن الاختلاف الواقع في الدجال ليس اختلافاً في أنه يأتي أم لا يأتي . بل هو اختلاف في شيء من صفاته الراجعة لذاته أو لفعله . ففي بعض الروايات أنه أعور العين اليمنى ، وفي بعضها أعور العين اليسرى . وكذلك هل كان موجوداً في عصر الرسول . وهل هو ابن صياد أم غيره . لكن لا يوجد رواية ـ لا صحيحة ولا ضعيفة ـ تقول إنه لن يأتي ولن يخرج . فهل هذا الاختلاف يوجب أن يشك في وجود المختلف فيه ؟! لا يا قومنا . ولو كان كذلك لوجب أن يشك في كل تاريخي عظيم . فإنه لا يوجد شيء في التاريخ عظيم إلا ويوجد اختلاف عظيم في نعته وحاله مثل الرجال الذين سلف ذكرهم بل ويوجد اختلاف في الشيء الكثير من صفات الجنة وأهلها ، وفي الحساب , والعرض ، وفي القبر , ومنكر ونكير . فهل يوجب هذا أن نشك في وجود هؤلاء الأشياء .والحاصل أنه خفي على هؤلاء الأئمة الفرق بين الاختلاف في وجود الشيء والاختلاف في صفته . فالأول هو الذي يقال فيه : " تخالفتا فتساقطتا " لا الثاني . وهاك مثلاً يقرب المسألة :حدثنا جماعة من الناس أن العالم المشهور المعروف كان خطيباً يوم الجمعة الماضية في الأزهر . وحدثنا جماعة أخرى تساوي الجماعة الأولى عدالة وكثرة أن العالم المذكور نفسه كان يوم الجمعة المذكورة خطيباً في جامع عمرو بن العاص . فمثل هاتين الروايتين هما اللتان قد يقال فيهما : " تخالفتا فتساقطتا " . ولكن حدثنا جماعة كالجماعة الأولى بأن الشيخ فلانا كان خطيباً يوم الجمعة الماضية في الإمام الشافعي . ثم اختلفوا فيما كان لابساً . ففريق قال : كان لابساً جبة بيضاء ، وفريق آخر قال : كان لابساً جبة سوداء ، فهذا الاختلاف في لون ما لبس ، مع الاتفاق على أنه هو الخطيب لا غيره ، لا يوجب تساقط الروايتين مطلقاً ولا أن يقال فيهما " تخالفتا فتساقطتا " .نحن هنا لا نتعرض للتوفيق بين الروايات المتخالفة في الدجال ، ولا ترجيح الراجح -65-على غيره . فهذا البحث ليس في صدد من بحثنا وليس من مقصدنا ، وليست له قيمة تدعونا إلى التعرض له ، وإنما نريد أن نذكر أنه لا خلاف في أنه يأتي ، وأن الشبهة المعارضة لذلك مردودة .وأما الشبهة السادسة ، وهي أنه لم يذكر في القرآن . فيقال : القرآن لم يذكر فيه شيء على وجه التفصيل . فهو لم يذكر عدد الركعات في الصلاة ، ولا مواقيتها ، ولم يذكر عدد ما فرض منها في اليوم والليلة ، ولم يذكر مقادير الزكاة ، ولا مقادير الديات ، ولا نصاب والزكوات ، ولا ما يجب على المسلم من حجة في عمره ، ولا ذكر أيضاً أن عيسى عليه السلام سوف ينزل في آخر الزمان ، ولم يذكر الرجم للزاني المحصن . وبالجملة لم يذكر أشياء كثيرة . ولهذا يقول عليه السلام " أوتيت القرآن ومثليه معه " .ويقال أيضاً : إنه ذكر في القرآن ضمناً في قوله تعالى ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) وقد صح في الحديث أنه إذا خرج الدجال لم ينفع الإيمان مـن لم يكن مؤمناً من قبل , وفي قوله تعالى ( هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأني لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) على أن " جاء " هنا بمعنى كاد يجيء , وهو تفسير صحيح .وأيضاً ليس من عادة القرآن أن يصرح بذكر رجل واحد مغضوب عليه ومضل ، وإنما يبهم ذلك إبهاماً ، ويذكره بوصفه وعمله لا باسمه . وهذا في آيات عديدة أشار بها إلى رجال كثيرين من ضلال قريش ومن قبلهم ، وإنما ذكر أبا لهب تصريحاً لحكمة إستدعت ذكره باسمه .والكلمة الفاصلة في هذا أن ظهور الدجال أمر معلوم بالتواتر والضرورة الدينية ، لا يجوز مطلقاً الخلاف فيه . وليس من ريب أن من تشكك في الدجال الذي تستعيذ منه كل يوم مئات الملايين أكثر من خمس مرات لم يجد مانعاً من أن يتشكك في أصول الدين المتواترة اليقينية . ولقد كنا نعجب من قوم شكوا في رجال مشهورين لم تبلغ شهرتهم ما بلغه الدجال ، ولكن عجبنا اليوم ممن راح ينكر الدجال أذهب يشك فيه أكثر وأحق . ولا أحسب المسـلم الناصح لنفسه يرضى أن يرد الأمور المتواترة بأمثال هذه الشبهات التي -66-يشبهها من يبالغ في مدحها ببيت العنكبوت .
أحاديث اشراط الساعة
قد جهر القرآن بأن للساعة أشراطاً . قال ( وقد جاء أشراطها ) وقال ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) الآية . وقال ( وإنه لعلم للساعة ) وقال ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض ) وكذلك آيات يأجوج ومأجوج . وتكاثرت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله أن بين يدي الساعة أشراطاً مثل الجساسة ، وأن الشمس تطلع من مغربها ، وأن نهر الفرات يحسر عن جبل من ذهب ، إلى آخر ما ورد من ذلك في الأخبار الثابتة . وقد رد جماعة هذه الأشراط وشككوا فيها واحتجوا ببعض ما احتجوا به على الدجال وخروجه . إذاً خذ جوابها من جوابنا لشبهاتهم على الدجال . فلا نحتاج أن نعيد ذلك ، والله أعلم .
تحاج آدم و موسى عليهما السلام
عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام قال " احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى . قال موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك في جنته ، ثم أهبطك الناس بخطيئتك إلى الأرض . فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء . أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة " قال رسول الله " فحج آدم موسى " رواه البخاري ومسلم بألفاظ . وهذا اللفظ لمسلم .وهذا الحديث حديث ثابت عن رسول الله . وقد ضلت فيه طائفتان :طائفة كذبت الحديث وردته . قالت : إنه يدل على أن للعاصي أن يحتج لعصيانه بالقدر ، وأن احتجاجه يكون صحيحاً . قالوا : ونحن نعلم بالضرورة من دين الإسلام ، بل من جميع الأديان ، أن الاحتجاج بالقدر للمعاصي باطل في الشرع ، وفي العقل ، وأن من -67-عصى الله ليس له أن يحتج بالقدر ، وان احتج به كان خطيئة على خطيئة .وطائفة ثانية فهمت الحديث كما فهمته الطائفة الأولى ، فقبلته وسوغت أن يحتج العاصي ، بل والكافر بالقدر . وهذا باطل عقلا ، وشرعاً ، وضرورة ، ووجداناً . فلو كان يجوز أن يحتج بالقدر لجاز لليهود والنصارى والمشركين أن يحتجوا لكفرهم بأن الله قضاه عليهم ، وكانوا يحجون الأنبياء بهذه الحجة ، وكان يجوز أن يحتج السارق والزاني والقاتل به ، فلا تقام عليهم الحدود . وقد احتج المشركون على رسول الله بهذه الحجة الداحضة ، فردها الله عليهم . قال تعالى ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الين من قبلهم ) وقال ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) .وأيضا لو كان القدر حجة لكان حجة لموسى في لومه لآدم فكان يقول له : أتلومني يا آدم على لومي لك وقد كتبه الله عليّ وقدر أن ألومك فتكون الحجة لموسى على آدم كما كانت لآدم على موسى ، وكان كل منهما معذوراً ، ولم يكن موسى محجوجاً وآدم حاجاً ، ولم يكن آدم صيباً وموسى مخطئاً . وهذا واضح .وأيضاً قد جهر القرآن بأن آدم وحواء إعترفا بذنبهما و ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ولو كان آدم يرى أنه معذور بالقدر لما اعترف بذنبه .وأيضاً لو كان القدر يدفع اللائمة لما كان آدم عاصياً . لكن قال الله بعد أن ذكر أكلهما من الشجرة ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) .وأيضاً لو كان معذوراً لما أخرجا من الجنة لما أكلا من الشجرة ، ولكان الشيطان معذوراً أيضاً في إغواؤهما وأبى لهما السجود ، وكان يجوز له أن يرد على من اعترض عليه بالقدر كما احتج عدوه آدم .فالاحتجاج بالقدر للمخالفة باطل شرعاً وعقلاً ووجداناً وضرورة . ولو ظلم أحد هؤلاء الذين يحتجون بالقدر لما عذر ظالمه وغفر له ذنبه واحتج له بالقدر والقضاء بل لكان يسعى في الإيذاء والانتقام .-68-وإذاً سوف تقول لي : عرفنا أن الاحتجاج بالقدر باطل فما معنى هذا الحديث ، وما تأويله ؟ فأقول : فيه رأيان ليس في واحد منهما تجاف عن العقل أو الشرع :الرأي الأول ـ قالوا : إن موسى عليه السلام لام آدم على المصيبة التي وقع فيها هو وبنوه ، وهي الإخراج من الجنة ، لا على الذنب الذي هو الأكل من الشجرة . قالوا : والمصيبات يجب الرضا والتسليم لله فيها لأنها من فعل الخالق سبحانه لا فعل المخلوق . قالوا : وقد مدح القرآن الصابرين على المصيبة قال ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون ) وقال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) وقال ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدي قلبه ) قالوا :فالمصيبات التي يبتلي الله بها عباده ليس لهم أن يجزعوا منها ، وأن يحزنوا ، بل عليهم الرضوان بها ، والتسليم لله . قالوا : وموسى أعقل واعرف من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه ، وقبل الله توبته ، وغفر له ، واجتباه بعده . وإنما كان ملامه له على الإخراج من الجنة الذي هو صنع الله ، وعلى ما حصل منه ، وهو إخراج أولاده من الجنة، وتعريضهم للدنيا وتكاليفها ، وما فيها من أذى وردى . قالوا : ورواية الحديث شاهدة بذلك فإن فيها " أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة " وفيها " أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة " وفيها " ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض " فهذه الروايات شهيدة على أنه لامه على المصيبة التي وقعت بعد ذنبه ، لا على ذنبه وبهذا بريء الحديث من الإشكال . هذا هو الرأي الأول .الرأي الثاني ـ لم تقع المحاجة بين آدم وموسى إلا بعد أن تاب آدم من ذنبه ، وتاب الله عليه ، وغفر له ، ورضيه ، وعمل بعده الأعمال الصالحة التي جعلته من أصحاب الجنات ، ومن المقربين عند الله، ومن أنبيائه المصطفين ، فالحجاج بعد ذلك كله . والملامة على الذنب يراد بها زجر المذنب لئلا يعود إلى ذنبه مرة ثانية . أما إذا أذنب ثم تاب من ذنبه توبة نصوحاً ، وقبلت توبته فلا فائدة بالملام ، ولا يجوز ذلك مطلقاً . لأن -69-المراد منه حينئذٍ الإساءة والتوبيخ وهذا لا يحل . ألا ترى أننا لو لمنا إنساناً كان ترك الصلاة بعد أن تاب ، وحافظ عليها كل المحافظة ، لكنا أحق باللوم منه ، ولكنا مخطئين غير مصيبين ؟ وكذلك من لام كافراً على كفران سلف منه ، ثم تاب منه كان مخطئاً غير مصيب . فهذا الحديث من هذا . فموسى لام آدم على ذنبه الذي تاب ، فكان محجوجاً غير مصيب ، لأنه لم يفد لومه ، ولم يثمر غير إيجاع آدم وإيذائه . وقد روى مسلم في صحيحه أن امرأة جاءت رسول الله عليه السلام فاعترفت على نفسها بالزنا ، فأمر بها فرجمت ، فأقبل خالد بن الوليد ـ وهي ترجم ـ فرماها بحجر وسبها . فقال نبي الله " مهلاً يا خالد . لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " . نهاه رسول الله عن أن يسب امرأة زانية لأنها قد تابت . والتائب يتاب عليه . فكذلك آدم عليه السلام لا يجوز أن يلام على ما تاب عليه .وهذا الرأي هو الرأي الصحيح الذي يلزم حمل الحديث عليه أما الرأي الأول فليس بذاك . فإن قوله أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ صريح في أن موسى لامه على العمل لا على المصيبة .وأيضاً مما لا يصح أن يلوم موسى آدم على المصيبة التي هي من فعل الله ، ولا فعل لآدم فيها ، وهي إخراج ذريته من الجنة .وأيضاً لو كان لامه على المصيبة لكان ذلك لأنه السبب في المصيبة ، والعامل الأول في حلولها . ولا ريب أن المذنب يلام على ما أنتجه عمله . ولو عصا عاص فأنزل الله عقاباً عم ذلك العاصي وأهل بلدته لساغ ملامه على ما أصاب أهل البلدة . ولو إعتدى معتد من بلد فقتل إنساناً ، فهجم أهل القتيل على بلدة القاتل فأوقعوا بهم للام أهل البلدة القاتل على ما جره عليهم من بلاء ، ولقالوا له : آذيتنا واعتديت علينا . وهم صادقون .فإن قلت : ما ذهبت إليه في الحديث مذهب صحيح ، ولو لا أن ظاهر الحديث خلافه . فإن روايات الحديث كلها تدل على أن آدم دفع عن نفسه بالقدر لا بالتوبة . فانه قال " أتلومني على أمر قد قدره الله عليّ قبل أن أخلق " إلى آخر الروايات . ولو كان المعنى ما تذهب إليه لقل " أتلومني على أمر قد تبت منه وتاب الله علي " .-70-قلت : لا شك أنه إذا كان للأمر سببان ، أو علتان فأكثر جاز ذكر أحدهما وطي الآخر وتنحيته إن كان معلوماً . فقد يراك إنسان ، ومعك زكاة مالك تريد أن تدفعها إلى واحد من أصحابها ، فيقول لك : " إدفعها لفلان فإنه فقير " والعلة الثانية المطوية في هذا الكلام " ومسلم " فإن الزكاة لا تدفع للفقير إلا إذا كان مسلماً . وكذا إذا رأيت من يطلب عاملاً قلت : استعمل فلاناً فإنه مسلم " أي " وأمين وكفء " وإذا رأيت من يريد قتل إنسان قلت له : " لا تقتله فإنه مسلم " وأنت تريد أنه مسلم ، وأنه لم يجن ما يستحق به القتل . وإذا رأيت من يؤذي ذمياً قلت له : " لا تؤذه فإنه ذميَّ " أي " مسالم لم ينقض عهده " . وقد يقال لك : لماذا قدمت فلاناً على غيره . فتقول : " لأنه عالم " أي " وصالح " وقد يقال لك لم تحب فلاناً فتقول : " لأنه من العرب " أي " ومن الفضلاء " . وأمثال ذلك في الكلام العربي كثير معروف . وكذلك حديث الباب . ذكر أحد السببين، وهو القدر. وطوى الآخر ، وهو التوبة ، لأنها معلومة للمتخاطبين .فهذا الحديث قاعدة من قواعد الآداب النبوية ، وخلق من أخلاقه السامية . وهي أن يكون فعل الإنسان كله للمصلحة والفائدة فلا يفعل شيئاً إلا إذا كان نافعاً فلا يعظ عاصياً إلا إذا ظن أنه ينتهي عن عصيانه ، أو يقلل منه ، لا أن يلج فيه ويتمادى .
لطم موسى لملك الموت
عن أبي هريرة عن رسول الله قال : " أرسل ملك الموت إلى موسى . فلما جاءه صكه . فرجع إلى ربه ، فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت . قال : ارجع إليه وقل له ليضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال : أي ربي ثم ماذا ؟ قال : ثم الموت . قال : فالآن " . رواه البخاري ومسلم . وفي رواية عند مسلم قال : " قال ملك الموت لموسى : أجب ربك . فلطم موسى عين الملك ففقأها " قال : " فردها الله عليه " .هذا الحديث صحيح الإسناد وفي معناه إشكالات :أولاً ـ لو فقأ أحدنا عين واحد من عامة الناس لعد فاسقاً باغياً . فما حال من فقأ -71-عين ملك مقرب ؟! إن فسقه وظلمه يكون أعظم وأظهر .ثانياً ـ الحديث يدل على أن ملك الموت جاء موسى ظاهراً فأبصره . وهل ملك الموت يبصر ؟! .ثالثاً ـ الحديث يدل على أن موسى ما كان يعلم بأنه مائت لا محالة ، بل يشك في خلوده . ولهذا يقول : " ثم ماذا " كأنه لا يعلم أن الموت من بعد .رابعاً ـ إما أن يكون الله أرسل ملك الموت إلى موسى ليتوفاه أو يكون الملك ذهب من تلقاء نفسه . على الأول كيف يرجع إلى الله قبل توفيه ؟! أو ليس قادراً على ذلك وإن كره موسى والحديث يشهد على أن الله أرسله ؟! وعلى الثاني كيف يجوز لملك أن يتوفى نبياً من أنبياء الله المرسلين لإنقاذ البشرية من الشرك والفساد بلا أر من الله ، ألا يكون معتدياً أهلاً لما نزل به ؟! .خامساً ـ لا شك أنه ما لطم الملك فأطار عينه إلا كراهية الموت وحباً للحياة إذاً ماله لم يقبل ذلك العمر الذي عرضه الله عليه وهو عدد الشعرات التي تتناولها يده إذا وضعها على ظهر ثور ؟! فهذا قد يشعر بشيء من التناقض .هذه إشكالات قد تعترض القارئ ، وقد ترد عليه ، وإن لم يستطع الإبانة عنها . وقد كذب الحديث أقوام لذلك. وهي واردات لا تصل إلى إضعاف الحديث الصحيح . وبيان ذلك :أما الإشكال الأول وهو أنه يكون ظلماً وبغياً . فيقال : إن موسى ما كان يعلم أنه ملك الموت ، وأن الله بعثه إليه ، بل حسب أنه إنسي يريد العدوان عليه ، كما حسب إبراهيم ولوط الملائكة الذين جاءوهما أناسيّ فرأى أن الدفاع عن النفس جائز أو واجب . كيف وهو رسول الله أرسله لغرض من أشرف الأغراض ، وهو إقامة التوحيد والعدل في الأرض . وليس في الحديث ما يشهد بأنه عالم حقيقة الملك .وأيضاً ربما ظن أنه تصلح مدافعة ملك الموت ، كما تصلح مدافعة الأقدار والنوازل التي ينزلها الله ويبعثها لقصم العباد ، فحسب أن المكلف يطالب بأن يدافع كلما هجم عليه مطلقاً ، فدافعه ، كما يجب علينا أن ندافع الموت ووسائله على قدر طاقتنا ، وإن كنا غير قادرين على دفعه .-72-وأيضاً ربما حسب أن الملك ليس ملزماً بأن يقبض روحه ، فطلب منه الإمهال ، فلم يجب ، فأصابه بما أصابه . ولعله لم يكن قاصداً فقء عينه . وقد قص القرآن من فعل موسى ما يقارب هذا . وهو ما حكاه عن قتل القبطي . قال في سورة القصص ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه ، قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) وقال في ذلك ـ لما ذكره فرعون فعلته ـ من سورة الشعراء ( قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين ) ولا نرى موسى كان مريداً قتل ذلك القبطي، وإنما أراد أن يخلص الإسرائيلي منه ، فكانت القاضية .أما الإشكال الثاني ، وهو أن الملك جاءه فرآه . فيقال إن الملائكة تأتي الأنبياء بصور الرجال ، كما جاءوا إلى إبراهيم وإلى لوط بهيئة أضياف ، وكما كان جبرائيل يجيء رسول الله . هذا شيء لا ينكر ولا يستشكل .وأما الرواية التي رواها الإمام أحمد في الحديث وهي " وكان ملك الموت يأتي الناس عياناً فلا أظنها صحيحة . وهي ـ إن كانت صحيحة ـ من قول أبي هريرة ، ليست مرفوعة .وأما الإشكال الثالث ، وهو أن موسى كان يشك في خلوده . فيقال : إن الاستفهام في الكلام يكون ضروب كثيرة . وليس بلازم أن يقارنه الجهل والشك . وقد يستفهم العالم والجاهل فلا يدل الاستفهام مطلقاً على إن المستفهم جاهل وشاك فيما استفهم عنه . فقد جاء الاستفهام في القرآن كثيراً كقوله ( هل أتى حين على الإنسان من الدهر ) ، ( هل أتاك حديث الغاشية ) ، ( وهل أتاك نبأ الخصم ) ، ( آلآن وقد عصيت ) ، ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني ) الآية وأمثال هذا . فهل الاستفهام هنا يقارنه الشك ؟! كلا . ومثل هذا موجود في كلام الناس . فقد يقع الاستفهام منهم كثيراً بلا شك ولا جهل . فكذلك قال موسى " ثم ماذا " لا يدل على أنه شاك في مصيره الأخير .وأما الإشكال الرابع فنقول فيه : إن الله أرسل الملك إلى توفيه . والروايات شاهدة بذلك . ولكن لما رأى حرص موسى على الحياة ، وخوفه من الممات ظن أن الله ينسأ له في أجله ، فتركه . ولهذا يقول " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، أو أنه أثر فيه ما أصابه من موسى ، فرجع إلى ربه مشتكياً قبل أن يقوم بمهمته . ولا مانع أيضاً أن يكون إرساله لتوفيه -73-ليس على طريق الإيجاب والإلزام ، بل على طريق التخيير والتفويض . وقد جاء في الصحيح أن الأنبياء لا يموتون حتى يستشاروا ويخيروا بين الموت والحياة . فالملك يعلم أن موته في تلك الساعة ليس لازماً . وعليه لم يبادر إلى توفيه ، أو أن الملك جاءه مخيراً له بين الموت والحياة ، فظنه موسى عادياً ، فلما صكه علم أنه لا يختار الموت فتركه .وأما الإشكال الخامس فجوابه ما جاوبنا به الإشكال الأول ، وهو أن موسى لم يعلم أنه ملك الموت ، بل حسبه معتدياً عليه ، فلطمه لذلك دفعاً عن نفسه ، لا فراراً من الموت ، ولا رغباً في الحياة . فلما عرف أنه ملك الموت رغب في لقاء ربه ، واختار جواره ، كما اختار ذلك سائر الأنبياء بعد أن خيروا . ثم أي مانع من أن يختار الإنسان أولاً الحياة ثم الموت ؟ ليس في ذلك إستحالة ولا بعد . فلا يجوز رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الواردات التي ترد على كل شيء ، والتي لا يسلم منها كلام ، وإن بلغ من السمو والصحة والجودة . والله أعلم .