لهج أعداء السنة ومنكروها، أعداء الإسلام، قديماً وحديثاً، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة وتشكيك الناس فى إسلامه، وفى صدقه وروايته، وما إلى ذلك أرادوا! وإنما أرادوا أن يصلوا إلى التشكيك فى راوية السنة الأول، وأحفظ من رواها فى دهره، فأبو هريرة على رأس السبعة المكثرين من الرواية الذين عناهم من أنشد : سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا *** من الحديث عن المختار خير مضـرأبـو هريـرة، سعـد، جابر، أنـس *** صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمـرفأبو هريرة هو أكثرهم حديثاً فقد روى (5374) حديثاً، ثم عبد الله بن عمر روى (2630) حديثاً، ثم أنس بن مالك روى (2286) حديثاً، ثم عائشة أم المؤمنين روت (2210) حديثاً، ثم ابن عباس روى (1660) حديثاً، ثم جابر بن عبد الله روى (1540) حديثاً، ثم أبو سعيد الخدرى (سعد بن مالك) روى (1170) حديثاًوما اتهم به أبو هريرة ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهموقد تصدى للرد على تلك الطعون رهط من علماء الإسلام على رأسهم أبى هريرة نفسه، وصدق على دفاعه - على ما سيأتى - كبار الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين، منهم الحاكم فى المستدرك، وابن عساكر فى تاريخه، وابن كثير فى البداية والنهاية، وابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث، وعبد المنعم صالح العلى فى كتابه دفاع عن أبى هريرة، والدكتور محمد السماحى فى كتابيه "أبو هريرة فى الميزان"، والمنهج الحديث فى علوم الحديث، والدكتور السباعى فى كتابه "السنة ومكانتها فى التشريع، والدكتور عجاج الخطيب فى كتابيه السنة قبل التدوين، وأبو هريرة راوي الإسلام، والشيخ عبد الرحمن المعلمى فى كتابه (الأنوار الكاشفة)، والدكتور أبو زهو فى الحديث والمحدثون، والدكتور أبو شهبة فى دفاع عن السنة، والدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف فى كتابه "المختصر فى علم رجال الأثر" وفى مقدمة كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمى وغيرهمونكتفى هنا بترجمة للصحابى الجليل نتعرف بها على مكانته فى الإسلام، وبراءته مما نسب إليه من أكاذيب وذلك بعد أن نتعرف على أصناف الطاعنين فيه، والذين ذكرهم الإمام ابن خزيمة بقوله : "إنما يتكلم فى أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار 1- إما معطل جهمي يسمع أخباره التى يرونها خلاف مذهبهم الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويهاً على الرعاء، والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة2- وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد ، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبى هريرة عن النبى خلاف مذهبهم الذى هو ضلال لم يجد حيلة فى دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعة الوقيعة فى أبى هريرة.3- أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التى قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبى هريرة التى قد رواها عن النبى فى إثبات القدر لم يجد حجة يؤيد صحة مقالته التى هى كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبى هريرة، لا يجوز الاحتجاج بها4- أو جاهل يتعاطى الفقه، ويطلبه من غير مظانة، إذا سمع أخبار أبى هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه، وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان، تكلم فى أبى هريرة، ودفع أخباره التى تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبى هريرة أخباراً لم يفهموا معناها" قلت : والله إن من يتكلم فى أبى هريرة فى عصرنا لا يخرج فى عقيدته، ومذهبه عما ذكرهم الإمام ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -أبـو هريـرة إسلامـه وصحبتـه : قدم أبو هريرة مهاجراً من اليمن إلى المدينة ليالى فتح خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو فى اليمن، وشهد هذه الغزوة مع رسول الله ، ولازمه إلى آخر حياته يخدمه، ويتلقى العلم عنه ، ويتحدث هو عن ذلك لما سأله مروان بن الحكم قائلاً له: "إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبى بيسير، فقال أبو هريرة:نعم! قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفى، أدور معه فى بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مقل (أى فقير)، وأصلى خلفه، وأحج، وأغزو معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقنى قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومى له فيسألونى عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة والزبير، فلا والله ما يخفى على كل حديث كان بالمدينةقال:فوالله ما زال مروان يقصر عن أبى هريرة، ويتقيه بعد ذلك ،ويخافه،ويخاف جوابهوفيما سبق رد على دعوى الرافضة ومن قال بقولهم : "إن أبا هريرة لم يصاحب النبى إلا سنة وتسعة أشهر، فالمعروف أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وخيبر كانت فى جمادى الأولى سنة سبع وبين خيبر ووفاة النبى أربع سنوات، إلا شهرين تقريباً فإن الوفاة كانت فى ربيع الأول سنة 11هـخلقـه وتقـواه : كان ، صادق اللهجة، خفيف الروح محبباً إلى الصحابة، وكان تقياً ورعاً كثير التعبد،شديد الخشية لله تعالى، وكان يقول:"وأيم الله لولا آية فى كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبداً، ثم يتلو قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون}وكان صواماً قواماً يتناوب قيام الليل، هو وزوجته، وخادمه، فيما رواه عنه أبو عثمان النهدي قال : "تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته، وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً : يصلى هذا، ثم يوقظ الآخر فيصلى، ثم يوقظ الثالث"وقد أرسله النبى صلى الله عليه وسلم مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين فى الدين كما استعمله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على البحرين فترة ثم عزله، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه فلم يقبل أبو هريرة وقال : "أخشى أن أقول بغير علم، وأقضى بغير حلم، وأن يضرب ظهري وينزع مالي، ويشتم عرضي"يقول الإمام الجوينى : "وهذا مما يتمسك به فى أبى هريرة رضي الله عنه فعمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة، اعتمده وولاه فى زمانه أعمالاً جسيمة، وخطوباً عظيمة، وكان يتولى زماناً على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو لم يكن من أهل الرواية، لما كان يقرره عمر رضي الله عنه مع العلم بإكثاره"ولم يشترك أبو هريرة فى الفتن التى حدثت بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بل اعتزلها ولم يفارق الحجاز منذ استعمله عمر على البحرين ثم عزله ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته وفى هذا رد على الرافضة الزنادقة ومن قال بقولهممن اشتراك أبى هريرة فى الفتنة بين علي ومعاوية-رضى الله عنهما-"فكان يأكل مع معاوية فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي رضي الله تعالى عنه ،فإذا قيل له فى ذلك قال:مضيرة معاوية أدسم،والصلاة خلف عليّ أفضل"فهذه القصة التى بنى عليها الرافضى محمود أبو رية تسمية كتابه "شيخ المضيرة أبو هريرة" هذه القصة لا يصدقها عاقل، والأحداث التاريخية تكذبها يقول الدكتور محمد أبو شهبة : "كيف يصح هذا فى العقول، وعليّ كان بالعراق، ومعاوية كان بالشام، وأبو هريرة كان بالحجاز، إذ الثابت أنه بعد أن تولى إمارة البحرين فى عهد عمر رضي الله عنه لم يفارق الحجاز"وقال الإمام ابن عبد البر : "استعمله عمر على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل، فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته" وبهذا يتبين لنا كذب ادعاءاتهم، ويظهر لنا مدى حقدهم، اللهم إلا إذا كانت الشيعة ترى أن أبا هريرة أعطى بساط سليمان أو كانت الأرض تطوى له طياً!!!وعودة إلى خلقه وتقواه : فقد اشتهر رضي الله تعالى عنه بالتواضع، والمرح، فكان يداعب الأطفال، ويمازح الناس ويلاطفهم، ومن ذلك أنه كان يمر فى السوق، يحمل الحزمة من الحطب على ظهره-وهو يومئذ أمير مروان على المدينة فيقول:أوسعوا الطريق للأمير فمعاوية رضي الله تعالى عنه استعمله فى عهده على المدينة ثم عزله وولى عليها مروان، ثم استخلفه مروان عليها حين توجه إلى الحج قـوة ذاكرتـه وروايتـه :لقد لازم أبو هريرة رسول الله منذ قدم عليه مهاجراً، ينهل من عمله، ويتلقى عنه أحاديثه ويحفظها، واجتهد فى ذلك حتى صار أحفظ أصحابه، وأكثرهم رواية للحديث، فقد روى (5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً نبوياً - كما فى مسند بقى ابن مخلد- اتفق الشيخان البخارى ومسلم على (325) ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثاً منها،وانفرد البخارى بثلاثة وتسعين،ومسلم بمائة وتسعة وثمانين( )،وقيل غير ذلك0وهذه الروايات التى زادت على خمسة آلاف هى بالمكرر وذكر الدكتور الأعظمى فى كتابه : أبو هريرة فى ضوء مروياته أن أحاديثه فى المسند والكتب والسنة هى 1336 حديثاً فقط، وذلك بعد حذف الأسانيد المكررة وهذا القدر يستطيع طالب عادى أن يحفظه فى أقل من عام، فما بالك بمن كان حفظه من معجزات النبوة"ويقول الدكتور أبو شهبة : "وأحب ألا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعون حديثاً، الكثير منها لا يبلغ السطرين أو الثلاثة، ولو جمعتها كلها لما زادت عن جزء" فأي غرابة فى كثرة مروياته مع حداثة صحبته، مع أن السنين الأربع ليست بالزمن القصير فى عمر الصحبة، ولا سيما ما توافر له دون غيره من الصحابة من أمور كانت سبباً في تفوقه فى الرواية وكثرة مروياته منها : أسباب كثرة مروياته : أولاً : شدة ملازمته للنبى عليه الصلاة والسلام منذ قدم مهاجراً إليه سنة سبع من الهجرة يدور معه فى بيوت نسائه يخدمه، ويصلى خلفه، ويحج، ويغزو معه كما حدث عن نفسه، ومما أعانه على التفرغ لذلك أنه كان فقيراً، ولم تكن له زوجه، ولا أولاد حينئذ - ونحو ذلك مما يشغل، مع شدة حرصه على تلقى الحديث عن النبى ، وشهد له النبى عليه السلام بهذا الحرص ومن الآثار الدالة على ذلك : ما جاء فى الصحيح عنه قال : "يقولون : إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد ويقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك : إن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله عليه الصلاة والسلام على ملئ بطنى فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله يوماً : "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثنى به ولولا آيتان أنزلهما الله فى كتابه ما حدثت شيئاً أبداً : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}ثانياً : دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ وعدم النسيان، ومما يدل على ذلك الرواية السابقة، وما رواه الحاكم فى المستدرك عن زيد بن ثابت، أن رجلاً جاء إليه فسأله عن شئ فقال له زيد : عليك بأبى هريرة، فإنه بينما أنا وأبو هريرة فى المسجد وفلان فى المسجد ذات يوم ندعوا الله تعالى، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا قال : فجلس وسكتـنا فقال عودوا للذى كنتم فيه، قال زيد فدعوت أنا وصاحبى قبل أبى هريرة،وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا قال:ثم دعا أبو هريرة فقال : اللهم إنى أسألك مثل الذى سألك صاحباى هذان وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمين"فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى فقال:"سبقكما بها الدوسى"ثالثاً : إن أبا هريرة تميز بقوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد أن دعا له الرسول بالحفظ وعدم النسيان - كما سبق - فكان حافظاً متقناً ضابطاً لما يرويهويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا آخر" وقد نقل هذه القصة الذهبى فى سير أعلام النبلاء، ثم عقب بقوله : "قلت هكذا فليكن الحفظ"وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر فى الإصابة، وابن كثير فى البداية(، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك الصحابة، والتابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا على ما سيأتى بعد قليلوكان رضي الله عنه يراجع ما يسمعه من النبى صلى الله عليه وسلم تأكيداً لحفظه، فقد روى عنه أنه قال : "جزأت الليل ثلاثة أجزاء:ثلثاً أصلى،وثلثاً أنام، وثلثاً أذكر فيه حديث رسول الله "رابعاً : أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وروى عنهم كثيراً من الأحاديث فتكامل علمه بها واتسع أفقه فيهاخامساً : امتداد عمره رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاماً، واحتياج الناس إليه فكان يحدثهم ويبث بينهم ما يحفظه من أحاديث، وأعانه على ذلك : ابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل ووجوده فى المدينة، والناس يفدون إليها، وكانت له حلقة فى مسجد الرسول يحدث الناس فيها بالأحاديث النبوية، فساعد ذلك على انتشار مروياته وتداولها، وكثرة أتباعه وتلامذته، حتى بلغوا نحو ثمانمائة من الصحابة والتابعين كلهم يجلونه ويثقون به ويثنون عليه على ما سيأتى بعد قليل. قال الإمام البخارى - رحمه الله - : "روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيره" ومن أشهر من روى عنه من الصحابة : زيد ابن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو أيوب الأنصارى0 ومن أشهر من روى عنه من التابعين : مروان بن الحكم، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، وعروة ابن الزبير، وهمام بن منبه - وقد كتب عنه الصحيفة المشهورة وغيرهم كثير.شهادة الرسول والصحابة ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه وإتقانه وكثرة سماعه وحرصه على الحديث1- روى عنه أنه قال ذات يوم : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه" 2- وعن ابن عمر-رضى الله عنهما- أنه مر بأبى هريرة ، وهو يحدث عن النبى صلى الله عليه وسلم: من تبع جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان أعظم من أحد0 فقال ابن عمر : يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله ، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق إلى عائشة -رضى الله عنها- فقال لها : يا أم المؤمنين أنشدك الله أسمعت رسول الله يقول : "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان؟ فقالت : اللهم نعم، فقال أبو هريرة : إنه لم يكن يشغلنا عن رسول الله عرس ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيهافقال ابن عمر : يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه. وكان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول : "كان يحفظ على المسلمين حديث رسول الله"وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رجل لابن عمر : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله فقال ابن عمر : أعيذك بالله أن تكون فى شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا" ومعنى "اجترأ" هنا أى على سؤال النبى عليه السلام والتعلم منه، فى حين كانوا يهابون سؤال النبى صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك ما رواه الحاكم عن أبى بن كعب رضي الله عنه قال : كان أبو هريرة جريئاً على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع … الحديث"3- وعن مالك بن أبى عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال : يا أبا محمد والله ما ندرى هذا اليماني أعلم برسول الله أم أنتم، تقول على رسول ما لم يقل - يعني أبا هريرة - فقال طلحة : والله ما يشك أنه سمع من رسول الله ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتى نبى الله طرفى النهار ثم نرجع، وكان أبو هريرة مسكيناً لا مال له، ولا أهل ولا ولد وإنما كانت يده مع يد النبى صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما دار، ولا نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا، أنه تقول على رسول الله ما لم يقل" وهذا الخبر ذكره ابن حجر فى الإصابة وزاد فى قوله طلحة : "قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا"4- وقال ابن خزيمة : وقد روى عن أبى هريرة أبو أيوب الأنصارى مع جلالة قدره، ونزول رسول الله عنده، ولما يقبل له : تحدث عن أبى هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله ؟ فقال : إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإنى إن أحدث عنه أحب إلىَّ من أن أحدث عن رسول الله يعنى ما لم أسمعه منه.5- وعن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله ، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبى بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم ثم يحدثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه حتى فعل ذلك مراراً قال : فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله .6- ولم يكن أبو هريرة من أهل الحفظ فقط وإنما كان من أهل الفقه وشهد له بذلك الصحابى الجليل ابن عباس . يقول الحافظ السخاوى:"ولا عبرة برد بعض الحنفية روايات سيدنا أبى هريرة ، وتعليلهم بأنه ليس فقيهاً، فقد عملوا برأيه فى الغسل ثلاثاً من ولوغ الكلب وغيره، وولاه عمر الولايات الجسيمةوقال ابن عباس له كما فى مسند الشافعى، وقد سئل عن مسألة "افته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فأفتى، ووافقه على فتياه"7- وعن أبى صالح السمان قال : "كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله ، ولم يكن بأفضلهم" وفى هذا رد على من يحاول الربط بين المنزلة فى الدين وكثرة الرواية، فالربط بينهما ليس من التحقيق العلمى فى شئوقال الإمام الشافعي : "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره"وقال الإمام الذهبي : "أبو هريرة إليه المنتهى فى حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدائه بحروفه" وقال أيضاً : "وكان من أوعية العلم،ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة،والعبادة،والتواضع"10- وقال شمس الأئمة السرخسي : "إن أبا هريرة ممن لا يشك أحد فى عدالته، وطول صحبته مع رسول الله"إن كل هذه النقول وغيرها كثير تبين لنا مدى افتراء الرافضة، والمستشرقين، وضعفاء الإيمان الذين اتهموا أبا هريرة بالكذب، والخيانة، فى رواية الحديث، بسبب كثرة أحاديثه مع قلة صحبتهوأعتقد أنه ليس هناك ما يدعوا إلى اتهام أبى هريرة بتلك الافتراءات، وقد تهيأت له الأسباب السابقة التى أعانته على هذا التفوق فى الرواية، وشهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين السابق ذكرهم.وأي غرابة فى حفظ أبي هريرة أحاديث لم تبلغ خمسة آلاف وخمسمائة ومعلوم أن العرب قد اشتهروا وامتازوا بقوة حفظهم، ووجد فى الصحابة والتابعين من كان آية عجباً فى قوة الذاكرة، وسرعة الحفظ؛ فالإمام أحمد بن حنبل، والبخارى، وأبو زرعة، وأشباههم، كان كل واحد منهم يحفظ عشرات الألوف من الأحاديث بأسانيدها"يقول الدكتور السباعي دفاعاً عن أبي هريرة : "إن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على مسمع من كبار الصحابة، وأقرب الناس إليه من زوجته وأصحابه، ثم لا يلقى إلا تجلة وإعظاماً، يرجع إليه فى معرفة الأحاديث، ويهرع إليه التابعون من كل جانب … ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم … وكلهم يجمعون على جلالته والثقة به … وتمر هذه القرون وكلها شهادات صدق فى أحاديثه وأخباره … ويأتى اليوم من يزعم أن المسلمين جميعاً … لم يعرفوه على حقيقته، وأنه فى الواقع كان يكذب ويفترى، إن موقفاً كهذا يقفه بعض الناس من مثل هذا الصحابي العظيم، لجدير بأن يجلب لأهله والقائلين به الاستخفاف، والازدراء بعلومهم، وعقولهم جميعاً" إن حب هذا الصحابي الجليل لعلامة على الإيمان وبغضه لعلامة على النفاق وهذا تصديقاً لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة بأن يدعو الله له بأن يحببه هو وأمه إلى عباده المؤمنين ويحببهم إليهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم حبب عبيدك هذا -يعنى أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين" يقول أبو هريرة فما خلق الله مؤمناً يسمع بى ولا يرانى إلا أحبني"يقول الحافظ ابن كثير:"وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس فى الجوامع المتعددة فى سائر الأقاليم فى الإنصات يوم الجمعة بين يدى الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له"يقول فضيلة الأستاذ الدكتور على أحمد السالوس : [هذا أبو هريرة وعاء العلم، فكيف نجد فى عصرنا من ينسب نفسه للإسلام ويعرض عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، والأئمة الأعلام الهداة المهديين، ويأخذ بقول الضالين المضلين؟! هذا المسلك يفسره العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر فيقول : "وقد لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، فى عصرنا، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة، وتشكيك الناس فى صدقه وفى روايته وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا –زعموا- إلى تشكيك الناس فى الإسلام، تبعاً لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث فى رأيهم، وما صح من الحديث فى رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوروبا وشرائعها ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ فى اللغة التى نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!!وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم فى ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً والإسلام يسير فى طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم، بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراًومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع فى أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون! بفرق واحد فقط : أن أولئك الأقدمين، زائغين كانوا أم ملحدين، كانوا علماء مطلعين أكثرهم ممن أضله الله على علم!! أما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة، وامتضاغ ألفاظ لا يحسنوها، يقلدون فى الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم!!"رضي الله عن الحافظ علينا شرائع الدين أبي هريرة الصحابي الجليل العدل والثقة والعظيم ، وجعلنا الله سبحانه وتعالى من محبيه، وجمعنا معه في واسع جنته مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع صحابته الكرام العظام رضي الله تعالى عنهم.
__________________
__________________
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}وليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته ،ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً. ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً. ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس. إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير، مهما آذونا..