مشكلات الأحاديث النبوية و بيانها الجزء 2
النيل والفرات من الجنة
في حديث المعراج الطويل الذي رواه البخاري ومسلم وسواهما عن رسول الله ? أنه قال " ثم رفعت سدرة المنتهى . فإذا بنبقها مثل
قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران . فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات " وروى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام أنه قال " أربعة أنهار من الجنة : النيل والفرات وسيحان وجيحان " .هذه الأنهار الأربعة موجودة في الأرض ، معروفة للناس من مبدئها إلى منتهاها ، مشهودة لهم منابعها الأساسية ، ومصادرها الأولية . ومن أجل ذلك كان هذان الحديثان مشكلين في ظاهرهما ، لأنهما ربما دلا على خلاف المشاهدة . فافترقت الآراء هنا . فكذبت طائفة الحديث . وأفرطت أخرى فقالت : إن الأنهار المذكورة تخرج الآن من الجنة ، وتنصب منها . ولم تعبأ بأن تنازع المشاهدة . وقالت طائفة : إن غي الكلام تشبيهاً . والمراد أن ماء هذه الأنهار يشابه ماء الجنة حلاوة وغزارة ودواماً . وهذا القول لا يمكن إلا في الرواية الأخيرة . -74-أما الأولى فلا . وقالت طائفة : المراد أن من يشربون من الأنهار الأربعة هم من أهل الجنة . أي إن البلاد التي فيها هذه الأنهار سوف يؤمنون فيكونون من أهل الجنة . وقالت طائفة إن في الكلام تمثيلا. فسدرة المنتهى عبارة عن مركز التدبير للكون كله. فكل ما في الكون يدبر هنالك ، ويقضى ما يقضى فيه . فالنيل والفرات يدبران هنالك ويصدران عن مركزهما . فرسول الله ? رأى أمرهما وتدبيرهما يصدر من سدرة المنتهى لا ماءهما . وقالت طائفة : إن النيل والفرات رفعا ليلة المعراج إلى السماء بأعيانهما ، فرآها رسول الله عليه السلام ثم ، كما رفعت الأنبياء هنالك فرآهم . وقالت طائفة : هذه الأنهار المذكورة في الحديث أنهار موجودة في الجنة ليست هي الأنهار الموجودة في الأرض المعروفة ، وإنما توافقت أسماؤها . ففي الجنة أربعة أنهار تسمى بهذه الأسماء ، وفي الأرض أربعة أنهار هذه أسماؤها ، وقالت طائفة : قامت البراهين على صدق رسول الله عليه السلام وصحة هذين الخبرين عنه، فلزم أن نؤمن بذلك على مراد رسول الله عليه السلام ، ولا نكلف أنفسنا فهم ما لا نقدر على فهمه ، ولا نرد ما لم نحط به خبراً ، ويا رب حقيقة واقعة لا نفهمها . ولعلما عجزنا عن فهمه اليوم نفهمه غداً أو يفهمه غيرنا . أو لعل الزمان والحوادث تكشف لنا بعد ذلك عنه . وليس فهمنا وحدنا ميزان الحق والحقيقة . وفي السنة متشابهات . والمؤمنون هم الذين يقولون لما لا يفهمون ( آمنا به كل من عند ربنا ) ولا أضل ممن ذهب يرد ما لم يقدر على فهمه ، ولا أجهل ممن كذب بالشيء لأن الله لم يشأ أن يفهمه إياه .وهذه الأقوال كلها ضعيفة كما ترى ، لا تأنس بها النفس ، المؤمنة ولا الجاحدة ، وإنما الرأي الراجح الصحيح أن نقول : أما الحديث الأول فهو آت على سبيل التمثيل . فقد مثل له ? النيل والفرات هنالك تمثيلاً ، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط وهو قائم يصلي ، حتى تقهقر وراءه لما رأى النار ، وتقدم أمامه لما رأى الجنة ليأخذ عنقوداً ، وحتى رأى أناساً يعذبون في النار ، وكما مثل له عيسى بن مريم والمسيح الدجال ، أحدهما يتبع الثاني ، وكما مثل له موسى عليه السلام وهو راكب حاجاً ينحدر من الوادي ، وكما عرضت عليه الأمم أمة أمة ، فرأى سوداً ساداً الأفق ، فقيل له : هؤلاء قوم موسى ، وكما زويت له الأرض فرأى -75-مشارقها ومغاربها ، وكما رأى عمرو بن لحي يجر قصبة في النار ، ورأى المرأة التي عذبت الهرة بالحبس حتى ماتت . وقد رأى ليلة المعراج الأنبياء في السماء ، بعد أن صلى بهم إماماً في بيت المقدس ، وبعد أن رأى موسى يصلي في قبره ، وكذلك رأى نسمات الكافرين والمؤمنين عن يمين آدم وشماله في السماء . وقد رأى غير ذلك . وقد ذهبت طوائف من العلماء إلى أن ذلك كله على سبيل التمثيل والتصوير . فكذلك حديث النيل والفرات . مثلا له عليه السلام في السماء قرب سدرة المنتهى فرآهما . فهذا الرأي يساير الحس والعقل والشرع واللغة ، ولا يخالف منها واحداً . فلزم حمل الخبر عليه . ولا مندوحة عنه. ولله سر في تمثيل هذين النهرين له عليه السلام في تلك الليلة العظيمة ، في تلك البقعة المباركة ، وهو أن يكون رمزاً وإشارة إلى أن الله سوف يفتحهما على أمته ، ويجعلهما تحت سلطان شريعته ، لأنه قد علاهما وتجاوزهما ارتفاعاً ، وصارا تحت ذاته الشريفة ، وفي ذلك ما فيه من البشرى له مادياً ومعنوياً . هذا معنى الرواية الأولى .وأما الرواية الثانية ، وهي " النيل والفرات وسيحان وجيحان من الجنة " فالمعنى المختار أن يكون المراد أن الله أنزلهن من الجنة قديماً ـ بعد أن كن فيها ـ لمنفعة الناس ، وجعلهن في أماكنهن الآن من الأرض . وقد يشهد لذلك قوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض . وإنا على ذهاب به لقادرون ) وقوله ( أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) وقد كان آدم وزوجه في الجنة فأخرجا منها وأهبطا الأرض وكان الشيطان فيها فطرد منها . فكذلك الأنهار المذكورة . ولتعلم أن الرواية لم تقل إن الأنهار في الجنة ، بل قالت من الجنة . ولا يخفى عليك ما في العبارتين من الفرق . فالعبارة الأولى قد تدل على أنهن موجودات في الجنة . وأما الأخرى فتكاد تصرح بخلاف ذلك .وثم رأى ثان في الرواية الأخيرة . وهو أن هذه الأنهار سوف تكون في الجنة ، وسوف تكون من شراب أهلها ، وسوف يدخلهن الله فيها بعد أن يكملهن ويزيدهن حلاوة وعذوبة كما يفعل بالمؤمنين . هذا ما يتحمله هذان الحديثان من البيان الآن .
الحر من فيح جهنم
تكاثرت الأخبار في الصحاح وغيرها عن رسول الله عليه السلام أنه قال " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " ، وقال " اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا ربي أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، أشد ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير " .وقد أشكلت هذه الأحاديث أيضاً . فإن ظاهرها أن الحرارة التي نحسها في الصيف ، والبرودة التي نحسها في الشتاء صادرتان من النار . وهذا يكاد يكون بطلانه من قسم الضرورة . فإن الحرارة والبرودة ناتجتان من موقف الشمس من الأرض لا من جهنم . وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء .وقد أجاب فريق من العلماء عن ذلك وقال : إن الكلام فيه تشبيه . والمراد أن شدة الحر مثل فيح جهنم في الحرارة . ويرد هذا القول الرواية الأخيرة ، فهي صريحة بأن الحرارة والبرودة من تنفس النار . ثم كيف يقال : إن حرارة الصيف مثل حرارة النار التي بطلع على الأفئدة ، والتي تشوي الجلود شيّاً ، والتي ( وقودها الناس والحجارة ) والتي نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها كما في الحديث الصحيح ؟! وصح عن رسول الله عليه السلام أنه قال " أهون أهل النار عذاباً من له نعلان من نار بغلي منهما دماغه " . فكيف يقال : إن الحر مثل نار هذه أقل أوصافها ؟! أليس هذا مثل أن يقال : إن قرصة النملة مثل عضة الأسد ، أو مثل ضربة السيف وطعنة الرمح ؟! لا ريب أن حمل الحديث على هذا باطل شرعاً وعقلاً ولغة .وأجابت طائفة أخرى قالت : إن الأحاديث على ظاهرها ، وإن الحرارة التي يجدها الناس في القيظ هي خارجة من جهنم . ولم يبالوا مخالفة المشهود . وعندي أن تكذب الحديث أفضل من هذا القول .والجواب الصحيح في الحديث ، الذي لا يعدل عنه أن الحرارة من الشمس ، وأن الشمس من النار . أي إن الشمس جذوة من جذواتها ، وشرارة منقدحة منها . فالحرارة الآتية منها هي آتية من النار . وليس أمامنا مانع من أن تكون الشمس من النار . وقد تكاثرت -77-الأحاديث الصحاح بأن الشمس تدنو يوم القيامة من العباد ، وتصليهم ناراً حامية ، حتى يأخذهم العرق فيلجمهم ، وحتى يستصرخوا بالأنبياء من عذابها النكر وربما كان قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) دالا على ذلك . فالشمس معبودة ، فهي ذاهبة مع عابديها إلى النار . وهي نار محرقة فهي من النار . هذا رأي .وثم رأي ثان في الحديث ، وهو أن يقال : حرارة الصيف من الشمس ، وحرارة الشمس مكتسبة من النار وآتية لها منها ، فالحرارة آتية أصالة من النار . أو يقال : ما الشمس إلا شرارة من شرر النار ، إنقذفت منها ووقفت كما هي الآن لمصالح العباد . هذه أمور ثلاثة في الحديث لا نرى عائقاً من أن تكون تفسيراً له . وبها يزول ما في الخبر من إشكال .
الحمى من فيح جهنم
ومثل هذا الحديث قوله ? " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " رواه البخاري ومسلم .الحمى حرارة تتولد في الجسم إذا أصيب فيه أحد مراكز التدبير بسميات المكروبات ، أو بآلام أخرى شديدة . فإنها إذا أصيبت بذلك فسدت حـركتها ونظامها ، فتولدت الحرارة المسماة بالحمى . هذا أمر لا شك فيه . ولكن ظاهر الحديث خلافه . فإنه ربما دل أن حرارة الحمى آتية من لهب النار المعدة للكافرين .فقالت طائفة : إن في الكلام تشبيهاً . والمراد أن حرارة الحمى كحرارة جهنم في الإيلام والإيجاع . وفي هذا القول ما في القول الأول على الحديث السابق من الضعف .والرأي الصحيح أن نقول : إن حقيقة الحمى ـ كما ذكرنا ـ تتولد في الجسم لإصابة مركز من مراكز التدبير فيه . غير أن الحرارة المتولدة بذلك هي من جهنم رأساً . أي إن الله أخرج من النار جزءاً يسيراً ونثره في الأرض يصيب به بعض خلقه إذا ما توفرت أسباب الإصابة . وأسبابها القريبة هي ما يذكره أهل الطب . ولكن الحديث تكلم فيه من جهة منشئه -78-ومبتدئه . ولا مانع أن يكون من غيرها . فإذا ما جاء الخبر الصادق بأن ذلك من النار لزم القول به .وأما قوله " فأبردوها بالماء " فهو موافق للطب العصري ، حتى إن الأطباء العصريين يضعون ألواح الثلج على أجسام بعض المحمومين . غير أنه لا يجوز استعمال ذلك وتعاطيه بدون إرشاد الطبيب واستشارته . فقد يكون فيه ضرر لبعض المحمومين . والدواء كله إذا استعمل بوصف الجاهل عاد ضرراً ، وإن كان في أصله نافعاً مفيداً . بل الغذاء إذا لم يؤخذ بالحكمة والتقدير كان قاتلاً أو ضاراً . فكل شيء يحتاج إلى رئيس ومختص يضعه بحكمة وتقدير . فالحديث يدل أن الماء البارد مما تعالج به الحميات ولكن بعد أن يعرف الميزان والمقدار فيه النافع ، وبعد أن يقدره العارفون به ، والعارفون بالطب . وهذا كما يقال : القرآن هدى ورشاد . وإذا قرأه غير العاقل وغير الفاهم له قد يكون ضلالا له وفتنة . وأمثال ذلك . فهذا الحديث من معجزات محمد ? الطبية العلمية التي لا يمكن معرفتها إلا بوحي أو تعلم ، وهو لم يتعلم ، فلا جرم أن تكون وحياً .
الكافر يأكل في سبعة أمعاء
عن ابن عمر عن رسول الله ? أنه قال : " المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " رواه البخاري ومسلم وروى مسلم عن أبي هريرة أن ضيفاً ضاف رسول الله وهو كافر فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها ، ثم أخرى ، ثم أخرى ، حتى شرب حلاب سبع شياه . ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له بشاة فشرب حلابها فأمر له بشاة فشرب حلابها ، ثم بأخرى فلم يستتمها . فقال رسول الله : " المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " .بيان الحديث أن المؤمن حقاً ، الصادق في إيمانه ، كثير التفكير في الآخرة ، وفي عذابها ، كثير الخوف من الله ، ومن عصيانه وعقابه ، كثير الخضوع والعبادة ، كثير السهر والتهجد والصلاة والصيام ، كثير الجهاد في سبيله وسبيل دينه ، كثير الورع والإبتعاد عن الحرام وعن مظانه ، وعن الشبهات ومواقعها ، كثير العناية بدينه وفهمه ، كثير البحث -79-والتنقيب عما يرضي الله ويقرب منه ، وعما يغضبه ويباعد عنه ، كثير الاحتياط لعقيدته وإيمانه خوف أن يصيبه شيء من غبار البدع والشبهات ، كثير الرغبة في الجنة والزهادة في الدنيا ولذاتها ، كثير هذه الأمور كلها : يقل نصيبه من الدنيا من مأكل ومشرب ، وملبس ومسكن ، وجمع مال فهو يأكل في معى واحد فقط . وهذا كناية عن أنه قليل حظه من الدنيا ولذائذها بتعلقه بالأمور المذكورة اللازمة للإيمان الصحيح . ولا يريد الحديث أن خلقته مخالفة خلقة الكافرين ، ولا أن تركيب بدنه خلاف تركيب بدن غيره .وأما الكافر الذي لا يبالي بالدين ، ولا بما يغضب الله أو يرضيه ، فهو عكس المؤمن في ذلك . فليس له شيء يهمه سوى الدنيا ، والاستكثار منها ، والجمع لها ، والتفنن في تناول لذاتها ، واختراع المأكولات والمشروبات . فلا يبالي أن يأكل حراماً ، وأن يجمع حراماً ، ولا يبالي بالفقراء والمحتاجين ، الذين يتضاغون حوله جوعاً وعرياً ، لا يعرف لله ساعة يهب نفسه له فيها بعبادة ومناجاة ، أو تفكر في آلائه وشؤونه . وبالإجمال كل شيء فيه موقوف على الدنيا وعلى خدمتها . فهو كثير الحظ منها ، كثيرة الحظ منه ، فهو يأكل بسبعة أمعاء . أي أنه لا يراد بها حقيقتها . وهذا العدد يراد به التكثير لا التحديد ، مثل السبعين . كما تقول : لا يقبل الله من كافر عمله ولو عبده سبعين عاماً ، ولا من مبتدع بدعته ولو تقرب إليه بها سبعين عاما . وكذا تقول : سبع سنين . قال الله تعالى ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) وقال: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) لا يريد الله بذلك حقيقة السبعين ، ولا حقيقة السبعة ، وإنما يريد مطلق الكثرة . وكذا الأكل هنا لا يراد به الأكل المعروف وهو إزدراد الطعام ، وإنما يراد معنى أعم ، وهو التمتع بها بالأكل ، أو اللبس ، أو الجمع والإدخار . وهو كقول الله ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) وقوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم ) وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ) . فهذه الآيات لا تعني الأكل المعروف ، وإنما تعنى شيئاً أعم من ذلك هو ما تقدم . وبهذا يسلم الحديث من الإشكال الذي أورد عليه .والذين جعلوا الحديث مشكلا هم الذين حسبوا أن الأكل هنا هو الأكل المعروف وأن -80-الكافر يأكل كما يأكل المؤمن سبع مرات . فعلموا أن هذا المعنى ليس صحيحاً ، وهو خلاف مشهود . فأجابوا عن الإشكال أجوبة ليس فيها مقنع . منها أن طائفة قالت : إن الحديث مراد به كافر معين ومؤمن معين .ولعلك تقول : هذا الذي تذهب إليه في الحديث حسن لو لا أن الرواية الأخيرة تعانده فيما يبدو ظاهرها أن الأكل المراد به الأكل بدليل هذا إلى شرب سبع حلبات ـ وهو كافر ـ فلما أسلم شرب حلاباً واحداً . فهذا كالتصريح أن الكافر يأكل كما يأكل المؤمن سبع مرات . فالأكل هنا هو الأكل ، والسبع هنا هي السبع .فأقول لك : إن الأكل هنا جنس يتناول أنواعاً . يتناول الأكل حقيقة ، ويتناول اللبس ، والسكن ، والادخار ، والجمع ، وكل ما فيه تمتع .ودليل ذلك الآيات المتقدمة . وإذا ذلك كذلك فأحد أنواع الأكل الأكل المعروف ، كما فعل الرجل المذكور في كفره وإيمانه ، والأنواع الأخرى التي يتناولها لفظ الأكل دل عليها قوله " والكافر يأكل في سبعة أمعاء " .وسبب الحديث لا يكون مخصصاً عمومه . فالعموم باق على حاله ، وإن كان السبب خاصاً لا عموم له . وبيان هذا أن الرسول عليه السلام لما رأى ذلك الكافر وكثرة ما يأكل ذكر خلقاً من أخلاق الكافرين ، وهو التمتع باللذات المادية بشره وشدة . والمعاني تتداعى . وتفسير هذا قول العلماء " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " يريدون أن اللفظ عاماً في دلالته وإن كان خاصاً سببه . وغالب عمومات الشرع أسبابها خاصة .هذا من جهة الأكل . أما من جهة العدد فلا ريب أنه لا يريد في مثل هذا الاستعمال تحديد العدد . ومثل ذلك أن تقول : فلان يتكلم بسبعة ألسن ، أو سبعة أفواه ، ويأكل في سبعة بطون ، او سبع أيدي ، وينظر بعيون كثيرة ، ويمشي بأرجل عديدة ، وأمثال ذلك . لا شك أن القائل لذلك لا يقصد العدد المذكور ، وإنما يريد المبالغة . ومن فهم من هذه الأقوال العدد فهو كمن فهم من قوله تعالى ( تجري بأعيننا ) وقوله ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) وقوله ( وخلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً ) العدد . وكان كذلك الوزير الذي قال له الحجاج : اقطع لسان هذا . يشير إلى شاعر مدحه ونال إعجابه . فأخذ الوزير الموسى وآلة القطع وأحضر الشاعر ليقطع لسانه . وكان الحجاج يريد أن يعطيه مالاً يكف لسانه عن ذمه .-81-وبما ذكرنا صار الحديث واضحاً ، وقاعدة من قواعد الأخلاق الإسلامية . وهي أن المؤمن العاقل الحكيم لا بد أن يكون مستقلا من الشهوات المادية ، مستقلا من خدمة الدنيا لذاتها ، ليس بذلك الطماع الجشع ولا اللحز الشحيح ، ليس بعزيز عليه أن يضيع ماله في وجوه البر والخير ، بل له شأن أسمى من ذلك ، وغرض أعلى ، وهو تنمية الروح وتذكية العقل . ولا أهدم لأخلاق الأمم ، وللمدينة الفاضلة من الحرص على الماديات والشهوات .
أحاديث تأثير العين
روى البخاري ومسلم عن رسول الله عليه السلام أنه قال : " العين حق " وزاد مسلم " ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين " وثبت في البخاري وغيره عنه عليه السلام أنه كان يعوذ الحسن والحسين بهؤلاء الكلمات " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ويقول " كان إبراهيم يعوذ بهن إبنيه إسماعيل وإسحاق " . والأخبار في هذا الباب متواترة .وقد اتفقت الأمم بالإجمال على أن للعين تأثيراً . فلا تجد أمة إلا وفيها من يعرف بذلك ، ومن يصدقه ويعترف به ، ويروي فيه الروايات الكثيرة العجيبة التي يستحـيل أن تكون كلها كذباً ، وأن يكونوا تواطؤوا على الجهل والغلط والكذب فيها . بل يكاد يكون في كل بلدة من يعرف عنه ذلك الداء الوبيل ، والناس يحكون عنه الأشياء الكثيرة ، ويذكرون أنهم شاهدوها .وسمعنا من أناس كثيرين أنهم يعرفون أناساً لا تخطيء لهم عين حتى أنهم يقصدون لذلك . فإذا ما أراد إنسان الوقيعة بآخر أجر من يعرف بهذا للقيام بهذه المهمة ، فيقوم بها خير قيام ، ويقضي على تلك الفريسة بكلمة أو نظرة . وحدثني إنسان أنه كان في قريته شخص عرف بالحسد حتى إنه إذا مر فريق من الطير في السماء قال لهم : أي هذه الطيور تريدون ؟ فيشيرون إلى واحد فيقول فيه كلمة ، أو ينظر إليه نظرة ، فيخر ذلك الطير صريعاً . وكذلك يصنع بالبهائم والروايات في ذلك كثيرة . وكلنا يسمع من ذلك الشيء العجيب وإن كنا نرتاب في صحة كثير منه .-82-ونحن لا نقول : إن جميع ما يروى صحيح . وإنما نقول إنه مستحيل أن يكون كله غير صحيح . ولا شك أن أغلب أهل الأرض يؤمنون بذلك . والذين ينكرونه هم طائفة قليلة من المتعلمين السطحيين ولا أظن أن جمهور النوع الإنساني يتفق على الخطأ القرون الطويلة . ولئن جاز أن يتفقوا على الخطأ في أمر عقلي نظري فليس بجائز أن يتفقوا على الخطأ في أمر يرجع دليله إلى المشاهدة والحاسة . وأمر العين راجع إلى المشاهدة والحاسة . ولئن جاز هذا الذي لا يجوز فلن يجوز أن تجتمع الأديان كلها على الخطأ . وقد اجتمعت كلها على أمر العين ، والإصابة بها . والدين الإسلامي يقرر ذلك أصدق تقرير . وفي القرآن الكريم ما يومئ إليه . قال تعالى : ( قل أعوذ برب الفلق ) السورتين . فقد أنزل الله فيه قرآناً ، وأمر الرسول بالتعوذ منه . وفي سورة يوسف حكاية عن يعقوب ( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ) الآية. يقول طوائف من المفسرين : إنه خاف على بنيه العين إذا دخلوا مجتمعين ، فأمرهم أن يدخلوا مصر متفرقين لئلا تصادفهم عين حاسدة . وأما الطائفة المولعة بالإنكار والجحود فقد كذبت أمر العين ، وأنكرت الحسد ، وعدت المصدق به من العوام ، ولم تعبأ بأن تصادم ديناً أو تصادم روايات كثيرة صحيحة ، واتفاق جماهير لا يحصون . لم تبال بشيء من ذلك . وليس معها من دليل على تكذيبهم وإنكارهم الإنكار البات غير الاستبعاد القائم على الجهل المحض .فإذا ما قيل لهم: من أين علمتم إنكار ما أنكرتم؟! وما برهانكم على أن الديانات مخطئة ، والأمم غالطة ، والروايات كاذبة ؟! لم يكن لهم من جواب غير أن يقولوا : لا يمكن أن يصيب الشخص الآخر بغير اتصال وملامسة ، ولا يمكن أن يؤثر بالحسي المادي إلا حسيّ ماديّ مثله نراه ونبصره بأعيننا ؛ فإذا ما قيل لهم ما المانع من أن يؤثر المعنوي بالحسيّ ؟! وأن تؤثر الروح بالجسم وبالروح أيضاً من غير ملامسة ومقاربة ؟! وما المانع أيضاً من أن يؤثر الجسم بالجسم بلا اتصال ؟! أو ما المانع من أن ينبعث من روح العائن أو من عينه أو من جسمه أمر يصرع المعين وان لم نبصره ؟! ما المانع من ذلك وإن كنت لا تراه ؟! وليس كل ما لا يرى باطلاً . وقد كان الناس قبل أن يخترعوا " الميكروسكوب " ينكرون الميكروبات لأنهم لا يبصرونها ولا يحسونها. ولو ذكرت لهم لكذبوا بها ، ولما آمنوا بها. أوليس من " الميكروبات " -83-ما دق على " الميكروسكوب " وما هو فوق " الميكروسكوب" ؟! أي إن من النسمات التي تعرف " بالميكروبات " التي بها تحدث الأمراض ما لم يشاهد حتى الآن ، وما لم يحس مع العلم أنه يحدث الأضرار ويقتل الأحياء ؟! ولو قيل ذلك لطائفة الجحود والإنكار لم يكن لها من جواب فيه مقتنع .فيا هؤلاء المنكرون ! ماذا تنكرون من ذلك ؟! أو لسنا نرى الحي يموت بمجرد أن تفارقه الروح ، ويحي بوجودها فيه ؟! وهل رأينا الروح أو أحسسناها ؟! أو لسنا نرى الحي يمهد ، أو يموت موتاً أصغر إذا جاءه ذلك الشيء المجهول المعلوم الذي نسميه نوماً أو موتاً ، ويصحو ويقوم إذا ما فارقه ونحن لا نحس ذلك ولا نبصره ؟! أو ليس الساحر يؤذي المسحور من غير إتصال ولا تلاق ؟! أو ليس الهم يذيب الجسم ، والفرح ينعشه ويملؤه رونقاً وبهاء . والفرح والهم غير محسوسين ولا مبصرين ؟! أو ليست الذكرى تلعب بالذاكر لعب النكباء بالرمح الخطل ، والذكرى غير محسوسة ولا مبصرة ؟! فماذا تنكرون بعد هذا يا هؤلاء ؟! إن من الأفاعي لنوعاً يخطف الأبصار ويسقط الأجنة من بطون أمهاتها عند المشاهدة والرؤية . وهذا النوع هو الذي قال فيه رسول الله عليه السلام " اقتلوا الأبتر وذا الطفيتين من الحيات ، فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر " ؟! وإن لم يقنعكم هذا قلنا لكم : إن من الأشجار لشجرة تنفعل بالرؤية والمقابلة ، فتنكمش إذا نظر إليها ناظر ، وتذبل وتتضاءل . وقد ذكرت ذلك المجلات المصرية نقلاً عن الغربية . وصورت هذه الشجرة .تصحيح العلوم العصرية لهذه الأحاديث :-فإن لم يقنعهم ما قدمناه قلنا لهم : أنظروا إلى التنويم المغناطيسي . أنظر كيف ينوم الشخص الآخر ، ويفقده حواسه ، ويتصرف فيه كما يرى ، بمجرد أن يقف أمامه ، وأن ينظر إليه ويفكر فيه . بذلك يقضي شعوره ووجدانه ، حتى لا يحس ضرباً ولا ألماً . وليس في هذا التنويم شيء من الاتصال والملامسة , وإنما هو تسليط روح على روح . أليس هذا هو مثل الحسد الذي ينكرونه ويجحدونه أثبته العلم إثباتاً لا يتحمل النقض ؟! .-84-إن التنويم المغناطيسي ، وتصرف المنوِّم في المنوَّم هو من عمل الروح وتصرفها . وكذلك الحسد الذي يأبون الإيمان به :والروح لها شأن عجيب غامض . والزمان يفسرها شيئاً فشيئاً .والناس كلهم يلزمهم أن يؤمنوا بتأثير العين ، وبتأثير غير المباشر ، وبتأثير الروحي المعنوي في الحسيّ المادي . فإنهم جميعاً يقولون : إن لهذا العالم المتقلب المضطرب ، الحي ، الميت ، المتحرك ، الساكن , قاهراً وسلطاناً غائباً عن الأبصار والحواس يدبره كما نراه بلا اتصال ولا مباشرة . وليس تدبيره إياه موقوفاً على أن يتصل به ، وأن يباشره . إذاً مالهم أنكروا ذلك في الأرواح وهم به مؤمنون ضمناً . هم بين أمرين : إما أن ينكروا رب العالم ومصرفه . أو ينكروا قولهم الذي أنكروا به تأثير العين .
ما يروى عن ابراهيم من الكذب
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات . ثنتين منهن في ذات الله . قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) " قال " وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إن هذا رجل معه امرأة من أحسن الناس . فأرسل إليه فسأله عنها . فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك . وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي . فلا تكذبيني . فأرسل إليها . فلما دخلت عليه ذهب ليتناولها بيديه . فأخذ فقال : إدعي الله لي ولا أضرك . فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية ، فأخذ مثلها وأشد . فقال : إدعي الله لي ولا أضرك . فدعت الله فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنك لم تأتي بإنسان إنما أتيتني بشيطان . فأخدمها هاجر . فأتته وهو يصلي . فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد الله كيد الكافر في نحره ، وأخدم هاجر " رواه البخاري . ورواه مسلم بسياق آخر مخالف لهذا السياق بعض المخالفة . والحديث صحيح الإسناد لا مغمز فيه . موافق لما في القرآن الكريم . مفسر لما ذكر عن إبراهيم عليه السلام فيه .-85-وقد كذب الحديث جماعة ، واعتلوا بعلل ضعيفة :قالوا أولاً ـ هذا خلاف قول الله تعالى في إبراهيم من سورة مريم ( واذكر في الكتاب إنه كان صديقاً نبياً ) قالوا والصديق هو الذي لا يكذب .وقالوا ثانياً ـ لا بد أن يكون الرسول معصوما من الكذب . ولو جاز عليه الكذب لما وثق بشيء من قوله . وهذا خلاف الإجماع وخلاف الدين .قالوا ثالثاً ـ إن الأمور المذكورة عنه عليه السلام ليست من مادة الكذب ، ولا مما يصدق عليه تعريفه . إن هي إلا معاريض . وفي المعاريض مندوحة عن الكذب . فالحديث الذي يقول إنها كذب لا يكون صحيحاً لمخالفته اللغة والواقع .وقالوا رابعاً ـ إذا كان مثل ذلك يسمى معاريض , ويسمى كذباً ، فلماذا اختار رسول الله في حق خليل الله أبشع اللفظين ؟! ولماذا لم يقل أحسنهما ؟! ولماذا لم يسمه معاريض ؟! .هذه هي شبهتهم التي كذبوا الحديث لأجلها .ونحن نقول في جواب هذه الشبهات :أما الأولى ، وهي أنه صديقاً نبياً . فلا ريب أن مغزى الآية هو الثناء على إبراهيم بفضيلة الصدق . بيد أن الصدق صدقان : صدق ممدوح وآخر مذموم . كما أن الكذب كذبان : كذب ممدوح وآخر مذموم . وقد يجب الكذب أحياناً ، كما يحرم الصدق أحياناً . وقد يزم الصادق تارة ، كما يحمد الكاذب أخرى . فالممدوح من الكذب هو ما كان فيه مصلحة دينية ، أو دفع مظلمة ، أو فساد . والمذموم من الصدق هو ما جلب أحد هذه المفاسد أو كلها . فلو سألك ظالم عن إنسان يريد أن يقتله ظلماً ، وكان يترتب على أن تصدقه قتله ، لوجب عليك أن تكذبه ، ولحرم عليك صدقه . ولو كان في منزل أحدنا أحد أنبياء الله ، فجاء من يريد إيذاءه ، أو قتله لوجب علينا ألا نخبر بوجوده ، ولكان الكذب فضيلة ، والصدق هو الجريمة . ولو سألك عدو للمسلمين عن موطن ضعفهم ، وعن مقتلهم ، لما جاز لك أن تخبره الخبر على وجهه وللزم التضليل لذلك العدو . ولو كان يترتب على كذب المصريين جميعاً أن يخرج الإنجليز من مصر ، وأن يستقلوا في بلادهم ، لكان كذب المصريين كافة من الواجبات المقدسة الدينية والوطنية . ولو رأيت من يريد الفجور بامرأة ، وكنت قادراً على دفع الفجور بالكذب ، للزم أن تكذب . -86-وبالإجمال فكل كذب يجلب مصالح عامة للدين ، أو للوطن ، فهو من الفضائل . وكل صدق يجلب فساداً أو عدواناً للدين أو الوطن فهو من الرذائل . وسر الكذب أنه ليس مذموماً لأنه مؤلف من " ك . ذ . ب " وأن الصدق ليس ممدوحاً لأنه مركب من " ص . د . ق " بل مدحهما وذمهما لما يثمرانه من فساد وصلاح . وقد كان رسول الله عليه السلام يورى في حروبه ، ويقول " الحرب خدعة " وكان يجوز لأصحابه أن يكذبوا ، وأن يقولوا فيه وفي دينه ما تدعو إليه الحاجة إذا أراد المكنة من أعداء الإسلام ، وصناديد الضلال الذين وقفوا في طريق دعوته ، وخانوا عهوده , ونقضوا مواثيقه ، وأسرفوا في التأليب عليه وعلى دينه . كما أباح لمحمد بن مسلمة أن يقول ما شاء في قتله كعب بن الأشرف اليهودي الذي آذى الله ورسوله ، وأخذ يدعو العرب وغيرهم لحرب الإسلام وحرب المسلمين بما أوتي من جاه ومال . وقد كان رسول الله عليه السلام راكباً مع أبي بكر رضي الله عنه في سفر الهجرة ، فكان الناس يعرفون أبا بكر يجهلون رسول الله . فكانوا يسألون أبا بكر من هذا الذي معك ؟ فيقول " هذا هاد يهديني السبيل " فيفهمون أنه يريد الطريق . وهو يريد السبيل إلى الله . وقد صح في مسلم عن رسول الله عليه السلام أنه قال : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً " وفيه أيضاً عنه أنه لم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها .إذا كان الصدق منه الممدوح والمذموم لم يمكن أن يمدح إبراهيم عليه السلام بالصدق المذموم البتة . الآية تريد مدحه الريب . فلا تعارض بين الحديث بين هذه الآية كما ترى . وهذه الكذبات المذكورة هي من الكذب الممدوح المباح الذي قد دفع عدوان المعتدي ، وفيه حفظ عرض من أشرف الأعراض وخذلان كافر من أظلم الظالمين . ولهذا يقول إنها في ذات الله . فالآية في شط والحديث في آخر .ثم إننا إذا أردنا أن نفهم قوله ( صديقاً ) من حيث ما يدل الوضع العربي لم يدل على ما قالوه . فإن " الصديق " هو كثير الصدق مبالغة في " صادق " وليس معناه المعصوم الذي لا يكذب .وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله غليه -87-السلام أنه قال : " لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " فهل معناه أنه يكون معصوماً من الكذب ، او من الصدق . وأمثال ذلك في لسان العرب . فمثلاً " الطيِّع " هو كثير الطاعة مبالغة في " طائع " وليس معناه الذي لا يعصي أبداً . وكذا " الكذاب " وهو كثير الكذب و ليس هو الذ لا يصدق . هذا عن الشبهة الأولى .وأما الشبهة الثانية ، وهي أنه لو كذب لما وثق بشيء من قوله فيقال نحن : لا نجوز عليه الكذب المذموم الممنوع ، ولا الكذب في الوحي والتبليغ فيلزم ما قالوا . وإنما نجوز من ذلك مثل ما في هذا الحديث وهو الكذب الذي فيه دفاع عن الفضائل والآداب والأعراض والدماء من غير أن يكون منه شيء في التبليغ فليس بلازم ما ذكروه .وهذا كما نعلم أنه جائز لكل مسلم أن يكذب إذا كان في كذبه مصلحة عامة راجحة على صدقه ، أو كان فيه دفع عدوان عن عرض أو دين أو فضيلة كما أسلفنا . وهذا لا يسلب جميع المسلمين العدالة وصفة الأمانة .وأيضاً قد قامت البراهين على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون في التبليغ والوحي ، ولا يطعن في عصمتهم ما ذكرنا . وكل شيء يجب أن يكون موجوداً إذا وجد برهانه . وبرهان عصمة الأنبياء موجود مطلقاً فيجب أن تكون لهم العصمة مطلقاً . وهذا قول لا يرد ، إلا أن يزعم المخالف أنه ليس له برهان على عصمتهم إلا إذا كذب هذا الحديث ومافي معناه . وهو غير ممكن أن يقوله .وأيضاً هذه الشبهة لاحقة النسيان والخطأ في الاجتهاد . وقد يخطئون فيما اجتهدوا فيه ـ لكن لا يقرون على الخطأ ـ لا فيما قالوه وحياً عن الله . فما كان جوابا عن النسيان والاجتهاد كان جواباً عن هذا الحديث سواء . هذه الشبهة الثانية .وأما الشبهة الثالثة ، وهي أن الأشياء المذكورة عن إبراهيم معـاريض وليست من الكذب . فيقال : هذا أمر راجع إلى اللغة ، لا إلى النظر والعقل ، ولا ريب أن المعاريض تسمى كذبا . فإن المتكلم المخبر يعنى بكلامه معنى في نفسه ، ويريد أن يفهم من يخبره معنى . فإن كان الواقع مخالفا لما يريد أن يفهمه المخبر السامع ، فهذا هو الكذب المحض البريء من -88-الصدق ، وإن كان مخالفاً لما يريد أن يفهم السامع فقط فهو كذب من جهة التفهيم ، صدق من جهة ما يعنيه. فهو كذب من جهة، صدق من جهة أخرى وهذا ما يسمى بالمعاريض في اللغة .ولا ريب أنه لو سأل سائل عم إنسان معك فقال لك : من هذا ؟ فقلت : هذا أخي . وأنت تريد أن تفهمه أنه أخوك من النسب ، وفهم أنه كذلك ، وهو في الواقع بعيد النسب عنك ، وإنما أردت أخوة الإسلام ، لكنت كاذبا ، ولشمل قولك هذا تعريف الكذب . ولو كان عليك لأحد دين ، فطالبك ، فقلت ليس عليَّ له شيء ، وأقسمت على ذلك ، لكنت كاذباً آثماً وإن كنت تعني معنى آخر في نفسك صدقا . وكذا أمثال ذلك في الكلام . وأقوال إبراهيم عليه السلام هي من هذا القسم . ومن الإسراف الذي لا يرضاه الله أن نرد الأخبار الثابتة في الاختلاف على موضوع لغوي لم يتثبت منه .وأيضاً الذي يبدو من القرآن أن هذه الأقوال منه عليه السلام كذب محض في ذات الله ، لإذلال الكفر والضلال ، وليست من المعاريض ، ولا سيما قوله ( بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) والتآويل التي يحملونها هذه الآية لا تصح . وذلك كما كان بعضهم يقف في القراءة على قوله ( بل فعله ) ويبتدئ بقوله ( كبيرهم هذا ) ولا يريد أن يكون ( كبيرهم ) هو الفاعل . ويجعل ( كبيرهم هذا ) مبتدأ وخبراً . وهذا ضرب من الألغاز والتعمية لا يوجد في كلام من يريد أن يفهم مراده . وكما يقول فريق : إن قوله ( بل فعله ) مشروط بقوله ( إن كانوا ينطقون ) أي فهم لا ينطقون ، فهو لم يفعله . وهذان القولان مبنيان على أن إبراهيم كان عربي اللسان . وما كان كذلك . ومراد إبراهيم عليه السلام بقوله هذا أن يوبخهم ، وأن يفند آراءهم ، وأن ينبههم إلى غلطهم وضلالهم بأسلوب لا يضطرهم إلى الانجفال منه . لأنه إذا قال : إن الذي كسر الأصنام هو الصنم الكبير عرفوا أنه لا يمكن الصنم أن يكسر شيئا ، ولا أن يفعل شيئا . وعرفوا أنهم على ضلال في عبادتهم هذه الأصنام حاسبين أنها تقضي لهم شيئا ، وتدفع عنهم شيئا ، وعرفوا أن الدعوى بأن كبيرهم هو الذي كسرها لا تقبل ، وعرفوا أن زعمهم فيها ما يزعمون كذلك لا يقبل ، فنتج المطلوب الذي كان يقصده عليه السلام ، وهو أن يعرفوا في أنفسهم أنهم في ضلال مبين ، وأن أصنامهم ليس لها أن تفعل ، ولا أن تعبد ، ولا أن ترجى . وهذا من محكم الرد على المخالف وحكيمه . ولقد أخذ هذا الرد مجراه ، وبلغ من -89-أنفسهم ما أراده عليه السلام فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا ( انكم انتم الظالمون ) ولكن العناد سحبهم بعد إلى ضلالهم وإلى مشاكسة الحق بعد عرفانه . وهذا شأن كثير ممن أضله الله قديماً وحديثاً ( ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) .وقد جاء في صحيح مسلم في حديث الشفاعة أن أحد كذباته عليه السلام هي قوله للشمس والقمر والكوكب ( هذا ربي ) من سورة الأنعام . ولم يذكر قصة الجبار . وهذا ظاهر في أنه أراد الكذب الصريح في ذات الله . وما يذكره بعض الناس في الآية من التقدير " أهذا ربي ؟ " على أن هناك استفهاماً حذف فهو ضعيف جداً من جهة اللغة ومن جهة سياق الآية نفسها . وقوم إبراهيم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجوم، فأراد عليه السلام أن يستدرجهم ، وأن يبطل ما يذهبون إليه بطريقة خفيفة لطيفة لا يهربون منها ، ولا ينكرونها ، فيدعى لهم أولا أنه منهم ، وأنه على رأيهم ليستأنسوا به وبما يقول ، وليستمعوا إليه ثم يرجع على عقيدتهم بالإبطال تدريجياً شيئاً فشيئاً ، فيبطل أولا إلوهية الكوكب لما يشاهده هو وهم فيه من أمارات التسخير و التصريف الاضطراري لمصرف قاهر فوقه . وذلك أنه مسوق ومقود إلى جهة معينة ، في مواعيد معينة ، في سرعة معينة ، لا يعدوها ولا يقدر أن يعدوها . وهذا ظاهر عليه وعلى سائر ما نرى من المخلوقات . والإله لا يكون مسخراً مذللا مقهوراً . وهذا معنى ( لا أحب الآفلين ) ثم يفعل ذلك في جميع معبوداتهم حتى الشمس التي هي أعظم ما يرى وأجمله وأضواؤه بذلك البرهان العجيب وهو ما يشاهد فيها من الضعف والسير البريء من الاختيار الذي لا يمكن أن تخرج عنه ومن نظر إلى الشمس وإلى سيرها بل إلى الأفلاك كلها علم ضرورة أنها مصرّفة مسوقة بلا اختيار وأنها تسبح في أفلاكها سبوحاً قهرياً ليس لها فيه إرادة . وإلى هذا الإشارة بقوله ( لا أحب الآفلين ) .ولو أن إبراهيم بدأهم بالإنكار والتجهيل . أو لو أنه أنكر آلهتهم مرة واحدة ، وجمعها في كلمة الإنكار ، لما كان لقوله أن يبلغ من أنفسهم ما بلغ ، ولما كان له أن يظهر عليهم كما ظهر . ولهذا أعظم القرآن طريقة إبراهيم هذه . وقال في خاتمة الآيات ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) فيا ليت من يدعون إلى الله وإلى الإصلاح الديني أو الوطني يقتبسون شيئاً من طريقة أنبياء الله ، ويسلكون ما يسلكون في -90-دعوتهم . وأما قوله ( إني سقيم ) من الصافات فنحن نذكر القصة من أولها ليفهم مغزاها .( وإن شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين وأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيداً فجعلناه هم الأسفلين ) .والذي يبدو من سياق الآيات أنه كان هو وهم في مكان واحد لدى أصنامهم ولعل ذلك كان لعبادتهم . وأنه اليوم الذي يخرجون إليها ليرفعوا لها النذور والتعظيم والعبادة كما يفعله أمثالهم اليوم في بلادنا هذه في الأولياء والصالحين ، وإن قوله ( فنظر نظرة في النجوم ) هي النظرة المذكورة في سورة الأنعام التي رأى فيها الكوكب والقمر والشمس ، وأبطل إلوهيتها . ثم إنهم بعد ذلك الموقف وذلك الحجاج أرادوا الرجوع إلى مساكنهم ، والإنفضاض من حول أصنامهم . وكان إبراهيم قد صمم في نفسه على أن يحطم أصنامهم ، وأن يصيرها جذاذاً إذا رجعوا وخلفوه ، فأراد أن يتخلف عنهم ، فقال لهم : إنني لا أقدر على القفول لأني مريض فلا أبرح مكاني هذا . فلما ذهبوا وتركوه راغ إلى أصنامهم فأعمل فيها معول الحق فحطمها تحطيما وصيرها هباءاً إلا أكبرها ليتهمه بما فعل . ثم إنهم علموا بما فعل ، فجاءوا إليه مسرعين محنقين ، فطفق يجادلهم ويحاجهم ، فما قبلوا منه حجة ولا برهاناً ، وما كان لديهم ، وما كانت حجتهم إلا أن أججوا له ناراً وقذفوه فيها ، وهذه هي حجة المبطلين دائماً في السابق واللاحق ، في الأولين والآخرين . فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ونجاه مما أرادوا به ، وجعلهم هم الأخسرين . وكذلك العاقبة تكون أبداً للمتقين والفوز للصابرين .هذا هو ظاهر الآيات ومن القصة من غير أن نراجع تفسيراً أو أن نسمع كلاماً فيها من أحد . فقوله ( إني سقيم ) كذب في ذات الله ، كما قال رسول الله عليه السلام ، وكما ظهر من الآيات . هذا عن الشبهة الثالثة .وأما الشبهة الرابعة ، وهي قولهم : لماذا اختار أبشع اللفظين ؟ فيقال : إن قوله " كذب في ذات الله " ليس فيه بشاعة ، وإنما يكون بشعاً لو قال " كذب " وسكت . أما إذا ذكر أن -91-الكذب كان في ذات الله، ولأجل الله ورضوانه فما فيه شيء، وليس بحرام . بل قد يكون جائزا ، وقد يكون واجباً إذا ما كان الصدق فيه فساد في الأرض أو خذلان لحق كما قدمنا . وكيف يكون الواجب بشعاً ، وكيف لا يكون التحديث عنه جائزاً لا شيء فيه .وأيضاً إن مثل هذه العبارة ضرب من ضروب المدح والثناء ، ضرب من الإطراء . فإذا قيل : لم يكن من فلان في حياته كلها كذب ـ لا في هزل ولا في جد ـ إلا في ثلاث كذبات كان ذلك القول في أقصى عبارات المدح . وهذا كما يقال " كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه " ، فحصر عيب الإنسان لا يكون عيباً . فإذا قيل : لم يعص فلان إلا مرتين في حياته كان هذا القول مديحاً قطعاً . وليس معناه أن الكذب نفسه ممدوح ، ولكن المدح يؤخذ من العبارة كلها .وأيضاً قد ذكر القرآن في حق الأنبياء عبارات قد تكون مثل نسبة الكذب إلى إبراهيم وقد تكون أشد . فقال في خاتمهم ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) وقال ( واستغفر لذنبك ) وقال في آدم ( وعصى آدم ربه فغوى ) وقال ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب فغفرنا له ذلك ) وهذا في القرآن غالب .وحينئذٍ يقال : هذه الكلمات إما أتكون على ظاهرها ، وأنه وقع منهم ذنوب ، فلتكن كذبات إبراهيم منها ولتكن من الذنوب الجائزة في حق الأنبياء . وإما ألا تكون على ظاهرها ، وأنهم ليست لهم ذنوب في الحقيقة ، وتلك الآيات مذهوب بها عن ظاهرها . فيقال : إذاً لماذا اختار هذا التعبير البشع الذي يوهم النقصان ؟ ولماذا لم يأت بالعبارات البعيدة عن ذلك ؟ وهذا السؤال في الآيات كالسؤال في الحديث . فما كان جواباً عن الآيات كان جواباً عن الحديث .
حديث الذي حرق نفسه
عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام قال : " قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله : إذا مت فحرقوني ، ثم اذروا نصفي في البحر ونصفي في البر ، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين . فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم . فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا ربي ، وأنت أعلم . -92-فغفر الله له " رواه البخاري ومسلم . وروياه أيضاً من حديث أبي سعيد . ورواه البخاري عن حذيفة .قد عد هذا الحديث قوم مشكلا فإن ظاهره أن الرجل كان شاكا في قدرة الله لأنه قال لئن قدر الله عليّ . وقد غفر له . ومن شك في قدرة الله لم يكن مسلماً . ومن لم يكن مسلماً لم يكن أهلاً لأن يغفر له . فالحديث من المشكلات .فأجابت طائفة قالت : إن " قدر " هنا بمعنى ضيق كقوله تعالى ( يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) وقوله : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) وقوله في ذي النون ( إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ) كل ذلك صائر إلى معنى ضيق .وهذا القول ضعيف لأن تقدير الكلام إلى " لئن عذبني ليعذبني " وهذا يقرب من إتحاد الجزاء والشرط ، لأن التضييق لا يعبر به في الكلام الفصيح عما في الآخرة، وعما بعد الموت . وإنما يستعمل في الدنيا وضيقها وفقرها وبؤسها . وأما الآخرة ففيها العذاب والآلام والنيران الحامية . فما معنى التضييق في الآخرة . على كل حال سياق الكلام يأبى هذا القول .قالت طائفة : كان جائزاً في الشرائع الأول أن يغفر لمن كفر ، وهذا الرجل الذي شك في قدرة الله كان من بني إسرائيل . وهذا قول لا يلتفت إليه .وقالت طائفة : إن الجاهل قد يعذر بجهله ، وإن جاء كافراً ، ما دام غير متعمد وهذا الرجل جاهلا . فهو معذور غير مأخوذ . وهذا القول كالأول لا يعتد به . ولو صح لنجا اليهود والنصارى وطوائف الكفر الذين كفروا بجهالة وما كانوا عالمين .وقالت طائفة : إنه قال ذلك القول في حالة وجل وخوف وغيبوبة فغلط لسانه ، وتفوه بما لم يرده . وهذا كالرجل الذي قال " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " من شدة الفرح والأعمال بالنيات . والله لا يؤاخذه إلا بما قد عقد عليه القلب ، لا بما سها به اللسان . ولا يقرب من الصواب أن يكون مقام هذا الرجل مقام من يغلط لسانه ، ومن يقول ما لا يريده جنانه . ومن البعيد الذي يضاف إلى المستحيل أن يكون ذلك القول غلطاً لسانياً لم يقصده القلب .-93-الجواب الصحيح : والجواب الصحيح أن الكلام فيه شيء من المجاز ، وأنه قد وضع اللازم فيه موضع الملزوم , أو وضع السبب موضع المسبب وأن تقديره " لئن جمعني ليعذبني عذابا " فوضع القدرة موضع الفعل ، لأن الفعل تلازمه القدرة , ولا يمكن أن يكون فعل بلا قدرة . فإذا كان فعل علمنا أن هناك قدرة . وإذا علمنا أن هناك قدرة علمنا أنه يجوز أن يكون فعل ، وإذا امتنعت القدرة امتنع الفعل ، وإذا امتنع الفعل فليس بلازم أن تمتنع القدرة . ومثل هذا التوسع في الكلام مألوف معروف عند العرب , شائع في مخاطباتهم , بل هو موجود في كلام الناس اليوم . فهم يقولون : هل تقدر أن تذهب معي ؟ وهل تقدر أن تذهب إلى مكان كذا ؟ وأن تفعل كذا ؟ وهل تقدر أن تقول لفلان وأن تكلم فلاناً ؟ ويقولون : إنك لا تقدر أن تقول لي مقالة كذا , ولا تقدر أن تكتب في موضوع كذا . وأمثال هذا الكلام الشائع . يقولون ذلك لمن يستطيع أن يفعل وأن يعمل ، وهم يريدون بالقدرة هنا الفعل ، وإنما عبروا بها عنه لأنها لازمة له وسابقة ولا يكون إلا بها. فكذلك معنى قوله " لئن قدر علي ليعذبني " أي لئن جمعني وحاسبني ليعذبني . وقد جاء في القرآن آية مثل هذا الحديث تماماً قال الله تعالى في آخر سورة المائدة ( إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) وما كان الحواريون شاكين في أن الله يستطيع أن يفعل ذلك ، وإنما أرادوا ( بيستطيع ) يفعل ، ولا خلاف .وقد حسب هذا الرجل أنه إذا فرق نفسه ذرات في القفار والبحار كان أهون على الله من أن يجمعه وأن يحاسبه ، وكان أقل في نظر نفسه من أن يعبأ الله بجمع تلك الأجزاء الحقيرة الضائعة المبعثرة . هذا ما كان حسب ، وما كان قدر في عقله . ولا يمكن أن يكون شاكا في قدرة الله . والحديث يدل على أنه مؤمن به خائف منه ومن عقابه , مؤمن بعذابه وحسابه . حتى إن القصة يتبادر منها أنه كان ملياً بسيطاً ليس بالفيلسوف الباحث . ومثل هذا لا يكاد يصح أن يكون منكراً لقدرة الله . هذا تحقيق كلمة القدرة هنا .شبهة أخرى :-فإن قلت : ما قلت في كلمة القدرة لا بأس به إلا أن في الحديث إشكالا آخر . وذلك أن -94-صنعه هذا يدل على أنه كان شاكا في بعثه وبعث من تفرقت أجزاؤه , ولو لم يكن كذلك لما حرق نفسه وذراها . وقوله " لئن قدر عليّ " التي فسرتها بالفعل يدل على شكه أيضا . وإذا كان شاكا في البعث فكيف غفر الله له والشك في البعث كفران ؟ وهل الكافر يغفر له ؟قلت : أغلب الناس لا يعرف دليل البعث إلا من الشرع ، ولا يعرفه من العقل . فالبعث عند هذا الصنف من الأمور السمعية النقليّة لا الأمور العقلية . فلا تقوم الحجة عليه إلا بأن يطلع على السمعي القائل بذلك . أما إذا جهل السمعي ، وأنكره بناء على جهله ، فلا تقوم عليه حجة . وهذا الرجل ما كان عالماً بدلائل البعث الشرعية ، ولم يعرفه بعقله ، فشك فيه جاهلا ، فكان معذوراً . ومثل هذا من الشك قي بعض أحوال الآخرة ، وأهوال يوم القيامة ، وصفات الجنة والنار أعاذنا الله منها لأنه لم يعلم الآية التي ذكرت عددها ، أو شك في الصراط وفي صفته لم يكفر . ولا خلاف في ذلك .شبهة ثالثة في الحديث :وهي أنه يقول : إن الرجل لم يعمل خيراً قط . والتوحيد ولا إيمان بالله وبالرسل والملائكة والكتب من أعمال الخير ، فظاهر الحديث أنه لم يؤمن بهؤلاء . كما أن ظاهره أيضاً أنه لم يأت بأركان الإسلام : الصلاة والصيام والزكاة والحج . فكيف يغفر له حينئذٍٍ ؟! .عن هذا جوابان :الأول ـ أن يكون المراد أنه قد جاء بحسنات وسيئات ، فساوت الحسنات السيئات ، فذهبت بها , ولم تبق منها حسنة ، وصار كمن لم يعمل خيراً قط . ونظير ذلك رجل يكسب كل يوم مائة قرش , وينفق في جانب آخر كل يوم مثلها ، فإذا ما إستمر كذلك سنة وأردنا أن ننظر فيما كسب في هذه المدة ، فإننا نقول بعد الحساب : إن هذا الرجل لم يكسب شيئاً قط . وإذا فرضنا أن مواليد الأمة المصرية مائة ألف وموتاها كذلك في سنة 1935 فإنه يصح لنا أن نقول : إن الأمة المصرية في السنة المذكورة لم يأتيها عدد جديد ، أو لم يولد لها ، وأمثال هذه العبارات . وربما فسر هذا ما صح عن رسول الله ? أنه قال يوماً لأصحابه " أتدرون من المفلس " قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا دينار . فقال : " المفلس من يأتي -95-يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا ، وأكل مال هذا . فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار " رواه مسلم . والمفلس هو الذي لا شيء له وكأنه لا عمل له وكأنه لم يعمل خيراً قط . وبهذا الجواب تنحل شبهات كثيرة عن أحاديث معروفة . فليكن القارئ على ذكر .والجواب الثاني ـ إن العمل إذا أطلق إطلاقاً ، كما قيل عمل فلان عملا صالحا ، أو عمل سيئاً ، لا يذهب عند هذا الإطلاق إلا الأعمال الجوارح من صلاة وصيام وحج ونظائره ولا يذهب لأعمال القلب من الإيمان والتصديق والرحمة وحب العدل والحق وأمثاله . لهذا كثيراً ما يقرن القرآن العمل الصالح بالإيمان مثل ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الآيات . إذاً مراده هنا أنه لم يعمل عملاً مما تقوم به الجوارح لا أنه لم يؤمن .فإذا قلت : وهل تارك الأعمال كالصلاة والصيام يغفر له ؟! أوليس تارك ذلك كافراً كما صح عن رسول الله عليه السلام بالأسانيد الصحيحة ؟! .قلت أولاً : لعل هذا الرجل ما كان آمن إلا في آخر حياته . فلم يمكنه أن يؤدي عملاً من الأعمال . وذلك ككافر أسلم بعد ما طلعت الشمس فمات قبل أن تجب صلاة الظهر فإنه يغفر له ، وهو لم يعمل خيراً قط .وقلت ثانياً : لعل أعمال الجوارح في الأمم الذاهبة ليست شريطة للغفران والقبول وبهذا زال والحمد لله من الحديث كل إشكال ، وأصبح حديثا جليلا دالا على ما في عفو الله من سعة ، وعلى ما في خوفه من أجر ومثوبة . والخوف من الله هو لباب العبادة . ومادة التقوى . فمن لا خوف له لا تقوى له .
تعذيب الميت ببكاء الحي عليه
روى البخاري ومسلم وغيرهما من طرق مختلفة عن جماعة من صحابة رسول الله عليه السلام أنه قال : " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " وفي رواية ببعض بكاء أهله " وفي -96-لفظ " يعذب ببكاء الحي عليه "قامت الدلائل القطعية الدينية التي لا تتحمل الجدال على أن المرء لا يؤاخذ بما قدمت يداه ، وبما جناه . والقرآن الكريم دال بجملته على ذلك . لهذا كان الحديث مشكلا جد الإشكال . لأن ظاهره يقاوم هذه القطعيات الدينية . فافترقت الآراء هنا ، وكثرت الأقاويل في شرحه والعثور على معناه .وقد أنكرته طائفة ، منهم عائشة زوج النبي . رواه عنها البخاري ومسلم . وقالت حسبكم القرآن فإنه يقول ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) وقالت طائفة : إنما يكون ذلك إذا أوصى الميت أهله بالبكاء عليه فإنه يعذب حينئذٍ وإلا فلا . وكان من عادة العرب أن يوصوا بالنياح عليهم ، وهو موجود في أشعارهم .وقالت طائفة : هذا لمن أهمل تعليم أهله أن النياحة محرمة . فإنه يعذب لأنه لم يعلم أهله ما يتقون ، وما يجلب سخط الله ، وهو راع لهم مسئول عن رعيته ، وهو القوام عليهم .وقالت طائفة : هذا في الكفار والمشركين لا المسلمين .وقالت طائفة : هذا وارد في إنسان بعينه، والألف واللام في الميت للعهد لا للإستغراق.وقالت طائفة بظاهره ، وعقلت أن الميت يعذب بما يبكي عليه ولم تكترث أن تخالف الدلائل القطعية . وقد قيل غير ذلك .وهذه أقوال لا تطمئن النفس إلى شيء منها ، ولا يسكن عندها الضمير .الجواب الصحيح :والجواب الصحيح الذي لا يعدل عنه أن العذاب هنا هو التألم لا العقاب ، فإن الميت يسمع بكاء الباكين عليه ، ويسمع ما يقولون فيه ، كما يسمع قرع نعال الدافنين إذا إنصرفوا عنه ، فيتألم لذلك ويحزنه بكاؤهم شفقة عليهم ورحمة بهم كما يتألم لو كان حياً . والتعذيب هو الإيجاع والإيلام أوسع معنى من العقاب وليس من ريب أنه يوجعه بكاء أحبابه ، ويؤلمه إذا سمع منهم ذلك ، وسماع الأموات لبكاء الباكين له نظائر في الدين . فقد صح في الحديث أن الميت يسمع قرع نعال دافنيه إذا رجعوا عنه وصح أن رسول الله عليه السلام خاطب كفار بدر توبيخاً لهم وتعذيباً وإيلاماً ، وقال لأصحابه " ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ولكنهم لا يجيبون " -97-وقد جاء هذا المعنى مصرحاً به في حديث رواه الطبراني ، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري . قال صلى الله عليه وسلم فيه " أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً فإذا مات استرجع فو الذي نفسي محمد بيده أن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم " وهذا فاصل في المسألة وفي معنى هذه الأحاديث .وفيها تفسير آخر لعله جيد هو أن المراد بالميت هنا المحتضر لا الميت حقيقة ، كقوله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " رواه مسلم . وقوله في حديث رواه الدار قطني " اقرؤوا على موتاكم يس " فالموتى في هذين الحديثين هم المحتضرون . وهذا استعمال جائز لغة وشرعا . وهو استعمال مشهور . ومعنى الحديث حينئذٍ أن المحتضرين يتألمون إذا بكى عليهم أهلوهم ، ويزيدهم ألما على ألمهم . فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يؤلموا موتاهم ، وأن يضاعفوا ما هم فيه من رحمة وشفقة بهم .فان قيل : هذا حسن لولا أن في الروايات ما يدفعه . وذلك أن في إحدى روايات الحديث " ان الميت يعذب في قبره ببكاء الحي عليه " . قلت : الذي يغلب أن هذه اللفظة غير محفوظة ، وإنما جاءت سهواً من الرواة ، والسهو يكثر في مثل هذا . ولهذا نرى البخاري روى الحديث ولم يرو هذه اللفظة وإنما رواها مسلم في بعض ألفاظه . ومسلم يتساهل كثيراً في التوابع والشواهد . ويزيدنا إطمئناناً إلى أن هذه اللفظة سهو أن أمثالها يقع فيه السهو كثيراً . وذلك أن الراوي يحسب أن العذاب المذكور لا يكون إلا في القبر ، فيتبادر إلى ذهنه وإلى لسانه زيادة ما حسب أنه هو المراد . وعلى هذا يخلص الحديث من شوائب الإعتراض . وحيث وجدنا للخبر الصحيح مذهباً سليماً من الشبهة وجب المصير إليه .
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام أنه قال : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " .إعتاص هذا الحديث على قوم . قالوا : إن أراد حقيقة اللفظ ، وأن المؤمن إذا لدغته-98-حية أو نحوها من جحر لم يلدغ منه مرة أخرى ، كان هذا غير صحيح . فقد يلدغ المؤمن من جحر مرات . ثم أي فرق بين المؤمن وغيره في هذا ؟ وإن أراد مجاز اللفظ ، وأن الحديث مثل مضروب ، يراد به أن المؤمن لا يخدع مرتين ، وأنه إن خدع مرة فلن يخدع غيرها ، كان أيضاً غير صحيح . فقد نرى المؤمنين أكثر الناس إنخداعاً في هذا العصر. وهذا الغرب يتلاعب بالشرقيين المؤمنين ، وينتقل بهم من خديعة إلى خديعة أعظم ، وهم لا يتعظون . وهذا الشيطان أبداً خادعهم . إذاً فالحديث مشكل جداً .ونحن نقول : الحديث صحيح الإسناد ، صحيح المعنى . وهو من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله عليه السلام ، ومن العبارات التي يعجز عن بلوغها فحول البلغاء . وبيان ذلك أن المؤمن حقاً يجب أن يكون فطيناً ألمعياً ، ذكياً ، لا يخدع ولا يغلب على أمره ، بل يحتاط لنفسه ، ولدينه ، ولعرضه ، ولوطنه ، ولكل حرمة يجب الإحتفاظ بها ، والرعاية لها . ولا يكون كأقوام نراهم اليوم بلهاء مغفلين ، ينقادون لكل خادع ويقعون في حباله . يخدعون في دينهم ، وفي أعراضهم ، وفي أوطانهم ، وفي أموالهم وأنفسهم ، ثم لا يستيقظون ، ولا هم يتعظون ، تخدعهم الساسة على بلادهم ، ويخدعهم المبشرون على دينهم ، وتخدعهم الدنيا . وهم هم لهذه الخوادع كلها أذلة منقادون ، وفي أيديها سادرون داخرون . فليس هؤلاء من المؤمنين حقاً الذين قيل " المؤمنون " فهم المعنيون . وقد جاء في الخبر أن المؤمن كيس فطن . وقد وصف القرآن المؤمنين بالعقل والعلم والمعرفة ، ووصف الكافرين بالغباوة والجهالة والبلادة في غير ما آية من كتاب الله عز وجل . وهل يكون عاقلا من لا يبالي بالآخرة ، وهي الحياة التي لا تنقطع ، وينفق همه وهمته في الدنيا وهي الفانية الخادعة ؟ وليس بعاقل من آمن بالساعة وبالجنة والنار ، ثم لم يجعل ذلك هو الأمر الذي له يهتم ويتعب وينصب ، بل ليس بعاقل من يشك في الآخرة وثوابها وعقابها ، ثم لا يبحث إلى اليقين ، ولا يحتاط لنفسه ، ويأخذ لها الحيطة . ونحن نحسب من يقدم على الشر الذي يشك في وقوعه فيه أحمق . فكيف بمن آمن بالآخرة ، وجنتها ، ونارها ، ثم نسى ذلك ؟! أوليس ذلك أوفر الخليقة حمقاً وغباءً ؟! .فالحديث وصف للمؤمنين بالفطانة ، والرزانة ، والتثبت ، والإحتياط . فهو لا يريد الجحر حقيقة ، ولا العدد حقيقة ، ولا اللدغ حقيقة ، بل هو أعلى من ذلك . هو مثل ـ كما -99-رأيت ـ لحال المؤمن الصحيح الإيمان . فحالة الفطنة ، والرزانة ، والتدبر فيما يأتي وما يذر . يفكر ثم يعمل . يفكر في المخرج قبل أن يصمم على المدخل . فلا يتقرب إلى الله بعبادة ، أو قربة ، حتى يعلم أن ذلك طاعة لله ، وأن الله طلبه من عباده ، فلا يبتدع ولا يخترع ، ولا يقول على الله قولا حتى يعلم أن الله قاله ، أو أن رسوله قاله ، ولا يقطع أمراً فبل أن يعرف أنه نافع لدينه أو دنياه ، بل يعقل ذلك كله ، ثم يقدم عليه مطمئناً رشيد الخطوة . فلا يهوى في غضب الله ، أو في إيذاء نفسه وأهله وصحبه . ذلك هو المؤمن حقاً ، وذلك هو ما يعنيه حديث رسول الله . وقد كان المؤمنون الأولون كذلك ، بل فوق ذلك ، فأحرزوا الدنيا ، وجنة الأخرى ، وكانوا ملوك الدنيا ، وملائكة الأخرى ، أو ملوك الأرض وملائكة السماء .والذين جعلوا الحديث مشكلاً هم الذين حسبوا أن العدد مراد حقيقة ، وأن الجحر مراد حقيقة ، وأن اللدغ مراد حقيقة ، والحق أن الحديث لم يعن من ذلك شيئاً، وإنما عنى ما ذكرنا ، و به خلص الحديث من الإشكال ، وصار قاعدة من قواعد أخلاق المؤمنين العالية ، وهو صحيح سواء أقيل : إن الحديث على الإخبار ، وإن المعنى أن ذلك هو شأن المؤمنين ، ووصفهم اللازم الذي امتازوا به ، على شرط أن نعنى بالمؤمنين المؤمنين حقاً ، أم قيل : إنه على النهي ، وان المقصد نهي المؤمنين عن أن يكونوا بلهاء مغفلين . والقولان صحيحان شرعاً ولغةً . والحديث عليهما صحيح .وليعلم القارئ أن العدد لا يراد حقيقته كثيراً . فقد قال في القرآن ( ان يستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) وقال ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) وقال ( أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) وقال ( ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ) ومن ذلك على قول للنحويين " لبيك وسعديك " . وأمثال ذلك كثير ، وهو لا يراد به حقيقة العدد ، وإنما يراد التكثير ، أو مطلق العدد . والحديث من هذا النوع . فصح معناه وسنده .
تحريم الجنة على المعاصي
صح عن رسول الله عليه السلام أنه قال " لا يدخل الجنة نمام " وأنه قال " لا يخل الجنة قاطع رحم " وأنه قال " من قتل معاهداً ذمياً لم يرح رائحة الجنة " هذه الروايات في الصحاح وغيرها . وأمثالها لا يحصى عدده . وإنما ذكرنا الروايات الثلاث نموذجاً لنذكر الجواب عنها ، ليكون جواباً عن أمثالها مما لم نذكره إذا مر على القارئ إن شاء الله .هذه الروايات وما في معناها مشكلة في الظاهر . فإن ظاهرها أن من عمل أحد الأعمال المذكورة حرمت عليه الجنة ، ولم يدخلها أبداً . ومعنى هذا أنه يخلد في النيران ، لأن الناس فريق في الجنة وفريق في السعير . ولا جرم أن هذا خلاف قطعيات الدين ، وخلاف إجماع أئمة المسلمين . والنصوص متظافرة على أن العصيان ليس كفراً ، وأن العاصي يدخل الجنة ، وإن طال مكثه في النار ، ما لم يتلبس بكفر أو إشراك .وقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث أجوبة كثيرة ، وأكثرها متكلف لا تقبله النفس المفكرة . وأقرب ما يقال في ذلك ما يأتي : أولاً ـ يجوز أن يكون ذلك كناية عما يوجب النار ، وعما يحرم الجنة . فإن إسراف المرء في النميمة ، وهي التحريش بين الناس ليتقاتلوا ويتعادوا . وكذا قطع الأرحام ، والتضييع لها ، وقتل المعاهدين الذميين الذين أعطوا ذمة الله واطمأنوا إليها : نعم إن إسراف المرء في ذلك كله يدل على أنه لا يرجو لله وقاراً ، ولا يخاف له عقاباً ، ولا يرجو منه ثواباً ، ولا يذكر جنة ولا ناراً ، وإلا نهاه بعض ذلك عن أن يتعاطى تلك الفواحش ، وأن يثابر على هذا المخازي ، بلا توبة رادعة . ومن كان كذلك كانت الجنة عليه حراماً ، وكان للنار أهلاً . وليس ذلك لأنه نمام وعقوق ، وقتال للمعاهدين فقط . بل لأن فعله ذلك شهيد بأنه قليل الإكتراث بالله وبثوابه ، وعقابه ، وفي جنته ، وناره ، وإلا لكان له من ذلك واعظ يعظه ، وزاجر يزجره . ويقارب هذا قول الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) ألا يظن هؤلاء الظالمون الباخسون الناس أشيائهم أنهم راجعون إلى الله فمحاسبهم على القليل والكثير ؟ على القطمير -101-والنقير ؟ على الخير والشر ؟ كلا . فإنهم لو علموا ذلك لكان لهم منه واعظ يعظهم وما ظلموا أحداً . فان النفوس مجبولة على أن تتقي الشر وإن قل ، وأن تحرص على الخير وإن قل . فمن لم يحرص على الجنة ، ويتق النار ، دل على أنه غير مؤمن بهما . وفي هذا المعنى قوله تعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون ) وقوله ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وقوله ( وما كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه إن أولياؤه إلا المتقون ) وقوله ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون ) وشبائه ذلك في القرآن يعز حصره . يجعل الصلاح دليلاً على صدق الإيمان وثباته ، والفجور دليلاً على قلة الإيمان وتضعضعه .فكذلك الأخبار المذكورة تعنى أن هجوم الإنسان على هذه السيئات بلا تأثم يدل على أن إيمانه قليل أو مفقود فهو لا يدخل الجنة لذلك ، لا لتلك السيئات . ولهذا كثيراً ما يقول رسول الله عليه السلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا ، كقوله " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "فأعمال البر دليل الإيمان ، وأعمال الفجور دليل الجحود والكفران . وفي معنى ذلك قول الشاعر :تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعفكل من ادعى شيئاً ، ولم يأت بدليل دعواه ، كان كاذباً . ودليل الإيمان بالله حقاً ، وباليوم الآخر ، والجنة والنار هي الأعمال . فان من آمن بأن عملا من أعمال الدنيا فيه غناه فلا بد أن يجد في طلبه ، وإن لم يفعل لم يكن مؤمناً بذلك ، إلا أن يكون به جنة. وفي أول الأنفال ( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقاً ) وقال ( قالت الإعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) إلى قوله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم -102-لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وبهذا تفسر تلك الأحاديث التي إعتاصت على كثير من العلماء ، وتحيروا في الجمع بينها وبين أصول الدين . مثل قوله صلى الله عليه وسلم " لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " وقوله عليه السلام " من رغب عن أبيه فقد كفر " وقوله " اثنتان في الناس هما كفر : الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " ، وقوله : " من ترك الصلاة فقد كفر " وأمثالها .ولا ريب أن من واظب على ترك الصلوات ، وأركان الإسلام ، وعلى الزنا ، والخمور ، والسرقات ، والنميمة ، وقطيعة الأرحام بلا توبة ، قليل الإيمان ، بل فاقد الإيمان . فان المؤمن حقاً الذي يخاف الله ويخاف مقامه ، إن وقع في شيء من ذلك لم يلبث أن يعود إلى ربه ، وإلى عقله ولم يلبث أن يمد إلى الله يد المتاب ، كما قال ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ، أولئك أعتدنا لهم عذاباً عظيما ) ، وقال : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين القيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) فالجنة معدة للمؤمنين الذين لا يصرون على المعصية ، بل أن قارفوا منها شيئاً لم ينشبوا أن يتوبوا لأن إيمانهم يدفعهم إلى التوبة . وأما من أصر على محاربة الله ومخالفته فليس بمؤمن حقاً ، وإنما يدعي ذلك ادعاء ، ومثل هذا لا يستحق الجنة .وتستطيع أن تتصور هذا المعنى في إنسان يدعي حبك وصداقتك في حين أنه لا يزال يخالفك ويسعى في إبطال أوامرك وإتيان ما تكره ومجانبة ما تحب . فهل تصدق أن هذا صديق وحبيب حقيقة ؟! وهل يمكن أن يكون كذلك ؟! اللهم لا . وتقدر أن تفهم ذلك أيضاً في نفسك فانك واجدك تتفانى في خدمة من تحب ، وتستسهل الصعب في اكتساب مرضاته ، وتتقي طاقتك إغضابه ومخالفته . فان وقع منك شيء يدني من غضبه ، أو يجرح شعوره ، لم تتردد في أن -103-تتوب ، وأتبسط إليه يد الإعتذار . فمن كان محباً لله ، حريصاً على رضاه ، لم يكن منه أن يصر على مخالفته . هذا ظاهر . وهذا أحسن محمل لهذه الأخبار ، وأقر بها إلى الشرع واللغة والعقل .الرأي الثاني :أن النفي واقع على حالة من الحالات ، وعلى زمن من الأزمان ، لا على كل الحالات ، ولا على كل الأزمان ، فلا يراد أنه لا يدخل الجنة أبداً ، ولا يدخلها في حالة من الحالات التي تقع تحت اللفظ ، بل يراد أنه لا يدخل الجنة في زمن معلوم ، وحالة خاصة ، كأن يراد أنه لا يدخلها دخولا مطلقاً ، دخولا حراً من كل قيد ، يبيح له كل لذة في الجنة بلا تقييد ولا تضييق ، أولا يدخلها دخولا يبيح له جميع لذات الجنة ودرجاتها . والجنة درجات كما النار دركات . أعاذنا الله منها . بل يدخلها على حالة من الحالات . وهذا الرأي لا تأباه اللغة والدين ، ونظائره موجودة معروفة في الكلام . فقد قال الله في حق موسى : ( قال ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) ، وقال في حق اليهود ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً ) ولا ريب أن موسى سوف يرى الله في الآخرة ، وأن اليهود سوف يتمنون الموت وهم في أطباق النار فراراً من ذلك العذاب النكر المستمر . فالنفي في الآية لحالة لا لكل حالة ، وفي زمن لا في كل زمن . وقال : ( فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ، وقال : ( إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم ) . ولا ريب أنه لا يريد أنهم لا يكلمون ولا يسألون أبداً . فكذلك الروايات المذكورة ومثل هذا من الكلام أن ترى جماعة يتأهبون للحج هذا العام ، فيقولون لك : ألا تخرج معنا ؟ فتقول : لا ، أولا أخرج ، وأنت تعني أنك لا تخرج العام لا كل عام . وكذا ، فقلت لا أذهب ، كان مرادك أنك لا تذهب معه تلك الساعة لا في كل ساعة ، وكذا إذا قيل لك : كل اشرب واقعد واخرج ، فقلت لا أفعل ، كنت تريد أنك لا تفعل في تلك الساعة لا في كل ساعة . وهذا شيء واضح . وهذا كلام فصيح جائز في كل لغة . وكـلام رسول الله يذهب به حيث تذهب العرب بكلامها . وكذلك قد تقول : فلان لا يتقي الله ، ولا يخاف الله ، إذا ما كانت تقواه وخوفه قليلين ، وإن كان أصل ذلك -104-موجوداً عنده . وتقول : فلان لا يخاف أحداً ، ولا يحب أحداً ، ولا يرجو أحداً ، إذا ما نقص حظه من ذلك . ولست تريد أنه فقد ذلك جميعاً . فإن هذا لا يمكن .وهذا التوجيه في الروايات يوافق الأخبار الصحيحة الكثيرة في أن طوائف من المسلمين يدخلون النار ويخرجون منها بعد أن يطهروا وينقوا من سيئات تلطخوا بها . وهذان التوجيهان هما أحسن ما يقال في الأخبار .وفيها أقوال أخرى قالها شرّاح الحديث . فقيل : إنها منسوخة بالآيات والأحاديث والإجماع . فان هذه دالة على أن الموحدين يدخلون الجنة لا محالة ، وإن عذبوا في النار أزماناً . وقيل : إن هذه الأخبار كانت في بدء الإسلام . وقيل : إن المراد من استحل تلك القبائح لا من فعلها وهو يرى أنها حرام . فالذي يستحل النميمة والقطيعة ودماء الذميين لا يدخل الجنة أبداً ، لأن من استحل ذلك كفر . وقيل : إنها من العام الذي عني به الخاص . فهي وإن كانت ظاهرة في أن من فعل ذلك فهو في النار مخلداً سواء الكافر والمؤمن إلا أن المراد بها الكافر ، ولا ينكر أن في الشريعة وفي اللغة الفصيحة عمومات أريد بها خصوصات . وقيل : إن المراد منها التخويف وزجر الآثمين . وقيل : غير ذلك .وجميع هذه الأقاويل لا يعتد بها وبعضها من أقوال أهل الإلحاد وهو القول الأخير .
تحريم من قال لا إله إلا الله على النار
عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار " ، وعن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله ألا يعذبهم إذا فعلوا ذلك " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار " وعن عتبان بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار " ، وفي رواية " أو تطعمه النار " هذه الروايات -105-صحيحة خرجها أصحاب الصحاح وغيرهم .وقد أسرف قوم فزعموا أن من شهد أن لا إله إلا الله فهو في الجنة ، وهو محرم على النار، وإن تلبس بالفواحش كلها ، وإن لم يعمل خيراً قط ، واحتجوا لمقالتهم هذه بالروايات المذكورة وما في معناها . وهذا القول من الدين والصواب في مكان سحيق ، وهو مخالف قطعيات الدين وإجماع أئمة الإسلام قاطبة ، ومخالف الضرورة والمعقول . وقد صرح الكتاب الكريم وكذلك سنة رسول الله في غير موضع أن من ترك الصلاة أو شعيرة من شعائر الإسلام الكبرى فمصيره إلى النار ، وإلى غضب الله ولا بد . وجهر أن من عصى الله فهو ذاهب إلى النار ، وهو على خطر عظيم . قال : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) ، وقال : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ) أي عذاباً أليماً . وقال في المشركين : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) إذاً من لم يتب من الشرك ، ويقول لا إله إلا الله ، ويقم الصلاة ، ويؤت الزكاة ، فلا يخلى سبيله المؤمنون ، بل يجاهدونه على ذلك جهاداً عظيماً . ومن وجب أن يجاهده المؤمنون فليس منهم ، وليست له الجنة . وكذلك من لم يفعل ذلك فليس من المؤمنين وإن قال لا إله إلا الله ، وليس أخاً لهم ، لأن الآية اشترطت للأخوة القيام بهذه الشعائر . ومعلوم ( إنما المؤمنون إخوة ) فالذي ليس أخاً لهم ليس بمؤمن . وقد اعترف أهل النار أن أول ما يدخلهم النار هو ترك الأعمال . فقالوا لما قيل لهم ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) وفي غير ما آية من كتاب الله أن أهل الجنة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفـردوس نزلا ) بل قد جعل القرآن العمل هو الطريق إلى الجنة وحده . فقال ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) ، وقال : ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، وقال : ( هل تجزون بما كنتم تعملون ) إلى آيات كثيرة . ذلك يدل على أن الإيمان بلا عمل لا فائدة فيه بل لا يسمى إيماناً . كما يقول السلف : إن الإيمان قول وفعل وعقيدة . وهذا قول أهل الحق قاطبة .وقد عرف القرآن المؤمنين في آيات عدة ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، وقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر -106-الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقاً ) وفي أول البقرة ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) وقد أوعد من عصى فقال ( ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها أبداً ) وقال بعد أن قسم المواريث ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) بل ق ذكر ما هو أبلغ من ذلك في الابعاد، فقال ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وفي آية ( فأولئك هم الظالمون ) وفي ثالثة ( فألئك هم الفاسقون ) ، وقال : ( فلا ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) .هذه براهين قاطعة على أن الشهادتين وحدهما لا يعصمان من الكفر ولا من النار ، ولا يوجبان الجنة . ولقد توعد على سائر المعاصي بالنار والغضب والحرمان .فذكر متعاطي الربا بأشد عبارات الوعيد والتهديد , وكذلك فعل في الزنا والقتل والسرقة والظلم والعدوان . وصح عن رسول الله في مسلم وغيره أنه قال : " من ترك الصلاة فقد كفر " ، وصح أنه قال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " وفي الصحاح والمسانيد والسنن أنه قال عليه السلام : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا يسرق السارق حين يرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) . وفي البخاري ومسلم أنه قال : ( لا يدخل الجنة نمام ) وفيهما قال : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) ، وقال : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ) ، وفي الصحيح أنه قال : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ) ، وصح أنه قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ، وقال : ( والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ) خياناته . وصح أنه قال : ( دخلت النار امرأة في هرة ) وقال بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله : وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ) وصح أنه قال لما سأله جبريل ما الإسلام : ( الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء -107-الزكاة ، وصوم رمضان , وحج البيت ) ، وقال : ( اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) . فقيل له : ولم يا رسول الله ؟ قال : ( لأنهن يكفرن ) . قيل أيكفرن بالله . قال : ( لا . ولكن يكفرن الإحسان ) ، وقال : ( من رغب عن أبيه فقد كفر ) .كل هذه الأخبار في الصحاح وغيرها . وفي صحيح مسلم أنه قال : ( إثنتان في الناس هما كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت ) , وفي البخاري عن رسول الله عن الله عز وجل أنه قال : ? من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ? . والأخبار الصحيحة في هذا المعنى لا تعد . وليست الأخبار التي احتجوا بها أكثر من هذه ولا أصح .ثم لو صح أن يتمسكوا بظاهر هذه الروايات لقالوا : إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فالنار محرمة علي ولو كفر بما عداهما : ولو كفر بالملائكة والنبيين وكل ما بعد الموت .وهذا لا يقوله ملى . إذاً لا يصح التمسك بظاهر الروايات البتة . إذاً ما معنى هذه الأحاديث المذكورة وعلى أي شيء تحمل ؟ فالجواب أن نقول : يجب أن نفهم الأحاديث مع نظرنا للأحوال التي أحاطت بها ومع نظرنا لحال القائل والذي قيلت له . فإننا إذا نظرنا إلى ذلك كله فهمنا الأخبار صواباً ولم نضل فيها ، وإن لم ننظر إلى ذلك بل أردنا فهمها من ألفاظها مجردة من كل قرينة وحال ، كنا غالطين ضالين في فهمنا وفي تفكيرنا ولا محالة . وهذا أمر عام في كل الأقوال ، يجب على الذين يريدون أن يفهموا قولا وأن يحيطوا بمعناه أن يتدبروا الظروف والحالات التي كانت مسيطرة على القائل ومن قيل له ، ليفهموا المعنى الذي قصد إليه القائل , ومن لم يفعل ذلك كان خطؤه أكثر من رشده ولا جرم . وهذا شيء لا نزاع فيه بين العلماء .إذاً يجب أن نفهم حال رسول الله ، وحال الذين خاطبهم رسول الله بتلك الأحاديث لنستطيع فهمها ، ولنعصم من الضلال فيها . نظرنا فوجدنا الذين كانوا في زمن رسول الله عليه السلام ، والذين كان يخاطبهم رسول الله بتلك الأخبار ، لم يكونوا يأبون منه إلا الشهادتين . إلا أن يشهدوا أن لا معبود إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . فإذا ما أقر أحد منهم بذلك لم يأب الأعمال ، ولم يمتنع من القيام بالطاعات التي جاء بها , بل أذعن لذلك جملة . فالخلاف إذا بين -108-رسول الله وبين الناس في التوحيد والشهادتين ، لا في الأعمال . فإذاً قوله صلى الله عليه وسلم : ( من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله على النار ) يريد من قبل دعوته التي جاء بها ، وهي التوحيد والتصديق أنه رسول الله ، وذلك مستلزم للأعمال والطاعات . ولا يراد به إن يقول ذلك مع ترك الأعمال ، فإن هذا لم يكن موجوداً في المخاطبين ، ولا معهوداً في زمنهم . وحمل الأخبار على ما لا يعهد ولا يعلم لا يجوز مطلقاً . ومن حملها كذلك كان ضالاً . فقوله صلى الله عليه وسلم : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) معناه من آمن بالله وبرسول الله . وذلك يستتبع القبول لما جاء به ويستتبع العمل به ، وقد جاء بالأعمال وشعائر الإسلام وأوجب ذلك على المؤمنين ، وأوعد من لم يعمل بالنار والغضب . فمن لم يعمل بما جاء به لم يكن مؤمناً صادقاً في إيمانه . ومثل ذلك أن تزعم أنك صديق لفلان ، وأنك حبيبه الخالص ، ثم لم تعمل مع هذا الزعم بما توجبه الصداقة ، وبما يشرعه الحب ، فإنه لا يمكن حينئذٍ أن يصدق أحد دعواك ، ولا يمكن أن تكون صديقه وحبيبه حقيقة . فإن المحب مطيع محبوبه لا محالة .ومثال هذه الأحاديث أن يقوم إنسان يطلب الملك ، فيخرج كتاباً للناس يقول : من أقر بأني ملك عليه ، واعترف لي بذلك أعليته وأرضيته دائماً ، ولم أغضب عليه أبداً , ولم أؤذه يوماً . فهل يمكن أن يفهم أحد من قوله هذا أنه يريد : من اعترف لي بالملك نال هذا الجزاء ، وإن لم يطعني ، وإن لم يقبل قوانيني وما فرضته على الناس ، وإن آذنني بالعصيان والمحاربة ؟ اللهم لا . فكذلك أقوال رسول الله عليه السلام .هذا هو التوجيه الأول لهذه الأحاديث . وهو توجيه حسبك به جودة !وثم توجيه آخر ، وهو أن يقال : كان أناس يؤمنون بالله ورسوله فيموتون أو يقتلون في سبيل الله قبل أن يدركهم وقت العمل ، وقبل أن يعملوا ، لأن الأجل لم يمهلهم ، فهؤلاء يدخلون الجنة ، ويحرمون على النار ، وهم لم يعملوا . فهذه الأحاديث تريد أمثال هؤلاء . وقد حصل ذلك في زمن رسول الله ، فآمن به أقوام ، وجاهدوا معه فقتلوا في سبيل الله قبل أن يصلوا ويصوموا ، وقبل أن يقوموا بأركان الإسلام : فهم في الجنة . وهذه الأحاديث قيلت في حقهم . هذا هو التوجيه الثاني ، وهو دون التوجيه الأول .-109-158وثم توجيه ثالث ، وهو ان يقال : لا شك أن من ضمن شهادة ان محمداً رسول الله , ومن جملة الإيمان به المعبر عنه بالشهادة أنه رسول الله ، الإيمان بكل ما جاء به وطاعته في الذي أمر به ، وفي الذي نهى عنه ، فلا يتم إيمان إنسان به حتى يؤمن بما جاء به . ومن لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً ، ولا شاهداً أنه رسول الله . فإن معنى الإيمان به الإيمان بالذي جاء به وقاله وفعله , وأنه من عند الله, لا يجوز مخالفته ولا عصيانه هذا هو الإيمان بأنه رسول الله . كما ان معنى الإيمان بأن فلانا من الناس طبيب لا يقربه الخطأ في علاجه ان نذعن له إذا أمر ونهى وعالج ، وأن نقع تحت تصرفه . وأما من رفض قول الطبيب وهو عليل ، كان رفضه دليل على أنه غير مؤمن له بالطب وصدق العلاج . هذا هو الواقع فيمن كان متوازن الشعور والتفكير . ومن قال : إن سيبويه نحوي لا يسامى ولا يتجاوز الصواب نحوه , ثم راح يخالفه وينقض عليه آراءه في النحو , لم يكن مؤمناً بما قال , ولا صادقاً فيه .فالإيمان بالرسول , الذي يكفل الجنة ، ويحرم على النار ، يشمل الإذعان له فيما جاء به ، وطاعته فيما أمر ونهى ، وإلا لم يكن إيماناً بأنه رسول الله . كما أن معنى الإيمان بأن فلاناً من الناس رسول الملك الذي لا يكذب , طاعته فيما ادعاه , وفيما طالب به , وإلا كان من أرسل إليهم معرضين لعقاب الملك , وخارجين عليه , فالإيمان بالرسول , أنه رسول الله , يشمل الإيمان بكل ما جاء به ولا ريب .ولهذا ذكرت الأحاديث الإيمان به ، ولم تذكر الإيمان بسائر الأنبياء والملائكة والكتب وغير ذلك لأن الإيمان به يشمل ذلك كله . ولو لم يكن كما ذكرنا لكان الإيمان بمحمد عليه السلام منجياً من النار , وإن لم يلازمه الإيمان ببقية الرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر . فهذه الروايات لا تذل البتة على أن من ترك الأعمال في الجنة . كما أنها لا تدل على أن من كفر بعيسى ، أو نوح ، أو باليوم الآخر ، أو بالجنة ، أو بالنار ، وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فهو في الجنة .وأخيراً لينظر هؤلاء المرجئة في قوله تعالى ? بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون ? وفي قوله ? إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً
سجود الشمس تحت العرش
عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين غربت الشمس ( أتدري أين تذهب هذه ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها . وذلك قوله تعالى ? والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ? ) رواه البخاري ومسلم . وفي لفظ لهما ( فتستأذن في السجود فيؤذن لها ، وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت ) .وقد ظنت طائفة أن هذا الحديث يدل على أن الشمس تغيب عن الأرض في وقت وتذهب لتسجد تحت العرش ، فكذبوا الحديث ، وقدحوا في روايته ورواته ، وهم عدول . قالوا : إننا نعلم بالضرورة والمشاهدة والحس أن الشمس لا تفارق الأرض لحظة ، وإنما تغيب عن قسم منها وتطلع على قسم آخر حتى تقطع الأرض كلها كذلك . قالوا : ولا حديث الذي يخالف المشاهدة والحس لا يصدق . وقالت طائفة : إن الحديث صحيح ، وإن الشمس تذهب كل يوم وتسجد تحت العرش ، وتغيب عن الأرض . ولم يعبأوا بأن يعاندوا الضرورة والمشاهدة .والطائفتان غلطتان غلطاً مبيناً . يتبين لك ذلك بتفسير الحديث كلمة كلمة . فنقول الذي في هذا الحديث ما يأتي :أولاً ـ إن الشمس تغرب .ثانياً ـ إنها تذهب وتجري .ثالثاً إنها تسجد تحت العرش .رابعاً ـ إنها تستأذن فيؤذن لها .خامساً ـ إنها تجري حتى تستقر تحت العرش ، وإن العرش مستقرها .سادساً ـ إنها تطلع أخيراً من مغربها .-111-هذا جملة ما في هذا الحديث . فلننظر أفيه ما يخالف المشاهدة والحس .أما الأول وهو أنها تغرب ، فلا إشكال فيه . لأن الغروب هو الإختفاء . والشمس تختفي . ولا يضرنا أن يكون الغروب أي الإختفاء ناشئاً من سير الأرض ، أو من سيرها هي . فالعرب تقول غرب الجبل وغاب . إذا ما أبعدوا عنه حتى إختفى عنهم . والجبل ثابت مكانه لا يزول . والذين يقولون إن الشمس ثابتة يقولون لها غربت وطلعت . وغروبها مذكور في القرآن .أما الثاني , وهو أنها تذهب وتجري ، فلا شك فيه أيضاً . لأن علماء الفلك اليوم يقولون : إنها تدور حول نفسها ، ويقولون إن لها دورة أخرى حول نجم آخر . والدوران لا يكون إلا من جري بالضرورة ، لأن الجري هو المشي . ثم إن الجري له استعمال آخر مجازي ، كما تقول الآن : إن الحكومة السعودية العربية تجري إلى الأخذ بأطراف الكمال والمدنية الفاضلة بجد ونشاط ، وكما يقال جرى قلم القضاء بما يكون ، وأمثال ذلك . ولا يراد به الحركة والإنتقال حقيقة .وأما الثالث ، وهو أنها تسجد تحت العرش ، فنقول : قد اخبر القرآن أن كل شيء في السموات والأرض يسجد لله ، كما قال ? ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال ? ، وقال : ? ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب ? ، وقال : ? النجم والشجر يسجدان ? والآيات في هذا كثيرة . كما قد أخبر أن كل شيء قد أسلم له ، وكل شيء يسبحه ? وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ? ، ? سبح لله ما في السموات وما في الأرض ? ، ولا يراد بذلك سجود كسجود العقلاء . وإنما يعنى به أحد ما يأتي : -إما أن يكون ذلك عبارة عن الانقياد والخضوع . والناس يسمون هذا سجوداً . كما قال الشاعر :أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني فلا أعاتبه صفحاً وإهواناوكما قال آخر :فكيف بمن لو أنني لحت واقفاً هوى ساجداً من خشيتي وقضى النحبا-112-وكما قال عمرو بن كلثوم :إذا بلغ الفطام لنا صبياً تخر له الجبابر ساجديناوالمراد بهذا السجود الخشوع والإنقياد . ويقوي هذا التفسير قوله في الآية ? طوعاً وكرهاً ? ، وقوله : ? وظلالهم بالغدو والآصال ? .وإما أن يكون المراد بالسجود الدلالة على الله . يعني أن هذه المخلوقات تدل على الله ، وعلى أنه يستحق أن يسجد له كل شيء ، وأن يعبده كل شيء . وهذا مجاز مشهور في اللغة . والتفسير الأول في السجود هو التفسير .وأمـا تقييد السجود بأنه يكون تحت العرش فهو مبالغة في الإنقياد وعبارة عن تمام ذلك . كما يقال : فلان يسجد تحت قدمي فلان ، ويسجد تحت سريره ، وتحت عرش الملك . والمعنى في ذلك المبالغة ، ولا تراد الحقيقة . فقوله إنها تسجد تحت العرش يعنى أنها خاضعة له أكمل الخضوع وأتمه .وأما الأمر الرابع ، وهو أنها تستأذن فيؤذن لها ، فنقول : غاية ذلك ان يكون مجازاً يراد به طاعتها لخالقها ، وطلوعها وغروبها بمشيئته وإرادته ، حتى كأنه يأمرها وينهاها فتعقل عنه ، وحتى كأنها تستأذنه في رواحها وغدوها . وهذا كله يعبر عن الخضوع . فإن الخاضع يستأذن المخضوع له عادة , ويستأمره فيما يأتي وما يذر ، ويسير حسب إذنه . فأطلق الإستئذان وأراد به ما يتبعه عادة ، وهو ما ذكرنا . وهذا النوع من التوسع شائع في الكلام . فهم يقولون : هذه الرسوم البالية تخبرنا أن كل شيء بال ، وان كل جديد فإلى البلى والزوال . ويقولون : هذه السيوف تشكو طول مكثها في الأغماد ، ويقول القائل منهم : شكا إلى جملي وناقتي طول السرى ، وشكت هذه الدابة إليّ الجوع والتعب ، ويقولون : هذا البيت يخبرنا أن بانيه حاذق بناء ، وهذه الصورة تقول إن من رسمني لراسم ماهر . ويقولون : قالت عينا الحبيب سمعاً وطاعة وأمثال ذلك لا يحصى . وطائفة من المفسرين يقولون : إن كل ما نسب إلى الجماد والسماء ، والأرض من المقال ، والخطاب بينها وبين الله محمول على ذلك . وذلك كقوله في السماء والأرض ? قالتا أتينا طائعين ? ونظائرها المعروفة في القرآن . ومثله استئذان الشمس وسجودها .-113-وأما الخامس ، وهو أنها تجري حتى تستقر تحت العرش فيقال : أما الجري فقد ذكرنا معناه . وأما أنه يكون تحت العرش ، فيقال : هذا كناية عن رجوعها إلى الله . إذ ليس وراء الله لمخلوق مرجع ولا مذهب فهو كقوله تعالى ? ألا إلى الله تصير الأمور ? ، ويقول الناس : " خطاب العرش " وهم يريدون خطاب من على العرش . أو يكون المراد بذلك أنها تستقر تحت العرش أخيراً عندما يأذن الله للساعة بأن تقوم .وأما الأمر السادس ، وهو أنها تطلع من مغربها ، فيقال : هذا عندما يأذن الله تعالى للعالم بالخراب والفناء ، ليخلق عالماً من أنقاضه أصلح للسكنى وأكثر إراحة لعباده . وهذا من علامات الساعة . والأخبار بأن الشمس تطلع من مغربها في الصحاح .هذا جملة ما في الحديث مما قد يعد مشكلا قد بان لك أيها القارئ أنه لا يقضي برد الحديث الصحيح . فإن قلت : إن كل ما ذكرت جميل لولا أن قوله ? تذهب حتى تسجد تحت العرش ? يدل على أن السجود غير الذهاب ، وغير التصريف والإنقياد . لأنه قد جعل السجود نهاية ذلك وغايته . فلا بد أن يكون السجود المذكور غير ما عبرت عنه بالخضوع .قلت عن هذا جوابان :أحدهما ـ أن المراد بالسجود تحت العرش هو وقوعها تحته حقيقة في آخر الدنيا عند إنقضاء مهمتها ، وسكون حركتها . والمعنى أن الشمس تبقى في شأنها إلى أن يأذن الله بفساد العالم ، فتقع تحت العرش ساجدة . وكل شيء إلى إنقضاء إلا وجه ربنا تعالى .وثانيهما ـ ان هذا مثل أن تقول : سار فلان حتى سار سيراً متعباً . وسار حتى أجد في السير . وسـار حتى إنقطع ظهره مـن الإعياء . وأمثال هذه الكلمات . وليس جنس الذي قبل ( حتى ) غير الذي بعدها فيه . على أن ( حتى ) قد تكون للعطف المطلق كالفاء والواو . وهذا قول مشهور لطائفة من علماء النحو . وعليه يكون سياق الحديث " تذهب فتسجد تحت العرش " إلى آخره . وعلى هذا يخلص الحديث من هذه الشبهة .وعلى كل حال فالحديث عبارة عن أن الشمس مسخرة لله ، خاضعة لأمره الكوني ، سائرة على حسب ما أراد وقدر ، حتى كأنها عاقلة ، تسمع خطابه . والرواية الأخيرة وهي تقول " حتى كأنها قيل لها أرجعي من حيث جئت " تشهد لهذا وتقوي أن يكون الحديث تمثيلاً -114-لحالة الشمس . فالحديث صحيح المعنى مع تدبره ومع إعطائه ما يليق به من التفهم والتعقل والتريث في إصدار الأقوال . فإن الزلل كثيراً ما يقارن العجل .
نسخ التلاوة في القرآن
وردت أحاديث في الصحاح وغيرها تدل على أن آيات من القرآن الكريم قد نسخت تلاوتها مع إبقاء أحكامها . ففي البخاري عن عمر بن الخطاب أن آية الرجم قد نزلت في كتاب الله . وفي صحيح مسلم أنه كان مما يقرأ في كتاب الله " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " وقوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة " ويوجد أمثال ذلك في الصحاح وغيرها .فاستشكل هذا طائفة من الناس قالوا إن القرآن ، بل والكلام كله من إخبار وإنشاء ، يراد به الدلالة والإفهام . ولا توجد الدلالة إلا عند وجود الدال ، وتفقد عند فقده . فإذا أبطل اللفظ , أي نسخ ـ وهو الدال ـ فكيف تبقى الدلالة والحكم ، بل لا بد أن تبطل الدلالة عندما يبطل الدال ، أي لا بد من نسخ الحكم إذا ما نسخ النص الذي دل عليه ، فإذا نسخت آية من القرآن فلا بد من نسخ حكمها ودلالتها . ولا معنى لنسخ اللفظ وهو التلاوة مع بقاء حكمه . ولو أرسل حاكم إلى رعيته كتاباً ضمنه أوامر ونواهي ، ثم أرسل إليهم يقول : إني نسخت ألفاظ الكتاب : ألفاظ الأوامر والنواهي ، لكان ذلك لا معنى له ، ولكان عبثاً لعباً . ومثل هذا نسخ التلاوة في القرآن مع بقاء أحكام ما ينسخ ، ثم أي حكمة في هذا العمل ؟! إنه خال من الفائدة ليس فيه إلا التغرير والتضليل للمكلفين المأمورين المنهيين .وأيضاً إن القرآن كان يتلقى بالتواتر كل لفظ منه . فكيف ينسخ مثل هذا ؟! ولو جاز فيه النسخ لجاز عليه الضياع . فلا يمكن أن تكون أخبار نسخ التلاوة صحيحة ، ولا بد أن يكون في أسانيدها أو في تأديتها خلل . هذا حاصل الطعن في نسخ التلاوة .ونحن نقول : إن الأحاديث في نسـخ التلاوة كثيرة صحيحة ، يبعد جداً أن تكون كلها -115-كذباً ، ويبعد جداً ألا يكون لها أصل وما ذكر من الشبهة ليس بالقوي الذي يمنع وقوع النسخ . وبيان ذلك أن نزول آية في القرآن فيها حكم من الأحكام ، طلبي أو خبري يشمل أمرين : أحد الأمرين وجود ذلك الحكم . وثانيهما وجوده في القرآن يتلى ويقرأ . فإذا ما أبطل تلاوته من القرآن لم يلزم أن يبطل الأمر الآخر . ولم يلزم أن ينسخ حكمه ، وليس الأحكام كلها في القرآن الكريم ، بل في القرآن وفي السنة . والمنسوخ من القرآن تلاوته حكمه حكم السنة الصحيحة ، دال على حكمه المطلوب ، كما تدل السنة على حكمها . فنسخ الألفاظ من القرآن ، مع بقاء أحكام ما نسخ ، هو عبارة عن ضم بعض الأوامر أو الأخبار إلى السنة أي جعله من قسم السنة بعد أن كان من قسم القرآن . فالدال موجود ، والدلالة موجودة ، وليس في ذلك وجود الدلالة مع ذهاب الدال . فان الدال هنا لم يذهب وإنما أخذ من قسم وجعل في قسم آخر . وليس هذا إبطالا له . ومثل هذا أن يكون أن لك كتابان ، أو قصيدتان : أحد الكتابين أجـود من الثاني ، وإحدى القصيدتين أجود من الثانية ، فتأخذ بعض ما في الكتاب الأحسن ، أو القصيدة فتضمه إلى الكتاب الآخر ، وإلى القصيدة الأخرى . فمثل هذا يصنع كثيراً . وليس فيه إبطال للمنقول من مكان إلى مكان . وليس فيه إلغاء لدلالته ، أو إلغاء لحكمه ، وليس فيه شيء من السفه والجهالة المرة ، وقد يكون في فعله مآرب صحيحة وحكم بليغة . وقد يترتب عليه فوائد مطلوبة . وليس في هذا الصنع تعـريض للضياع ، ولا تعـريض للبس ، ولا يلـزم شيئاً ممـا ذكر في الشبهة .وهذا القسم شبيه بالأحاديث القدسية ، وهي كلام الله الذي يوجد في السنة . مثل أن يقول رسول الله عليه السلام ( قال الله تعالى كذا وكذا ) وهي في الأخبار كثيرة غالبة . فالأحاديث القدسية ، والآيات المنسوخة تلاوتها مثلان . والفرق بينهما أن القسم الأول لم يضم إلى القرآن مطلقاً ، والقسم الثاني ضم إليه ثم فصل عنه . بل هو شبيه بالنسخ مطلقاً ، سواء نسخ التلاوة ، ونسخ الأحكام ، ونسخ الشرائع أيضاً من وجوه كثيرة . والإشكالات التي ذكروها تلحق ـ إن كانت صحيحة ـ كل ما يسمى نسخاً .وأما قولهم : إن هذا يكون من بقاء الدلالة مع ذهاب الدال ، فقد بينا أنه غير صحيح . وذلك أن الدال باق ، وإنما أخذ من القرآن وجعل في السنة . وهذا لا يسلبه الدلالة . فان السنة -116-تدل كما يدل القرآن ومن أين نعرف وجود نسخ التلاوة لولا ذكره في السنة ؟! وأما قولهم : ما الفائدة في هذا النسخ . فقد ذكرنا أنه قد تكون له فائدة كالمثل الذي ضربناه لهم . وليس لهم دليل على أنه مجرد من الفائدة مطلقاً ، وهذا السؤال يتوجه ـ إن كان حقاً ـ إلى الأحاديث القدسية . فيقال : إذا كانت كلام الله ، والقرآن كلام الله ، فلماذا لم تذكر في القرآن ؟! وما الفائدة في إبعادها عن القرآن ؟! ويتوجه إلى السنة كلها . فيقال : إذا كانت الأحكام الواردة في السنة قد أنزلها الله ، وأوحاها إلى رسوله ، فلماذا لم ينزلها قرآناً وما الفائدة في جعلها قسماً وحدها ؟! وأما قولهم إن جواز ذلك يعرض القرآن للضياع ، فهو قول غاية في الوهن والضعف . فان البراهين على حفظ القرآن ، وأنه لم يضع منه شيء ، وأنه متواتر لا يبطلها نسخ التلاوة . فالبراهين موجودة . ومن ادعى أن نسخ التلاوة يبطلها فقد أسرف في الخطأ والغلط . وليس بين نسخ التلاوة وضياع شيء من القرآن ارتباط ما ، إلا أنهما موجودان معاً لا غير . فالنسخ في القرآن ليس فيه ما يصدم الحق أو الدين أو ما يأباه النظر والقياس وقد جاءت به الأخبار الثوابت فحق الإعتراف به . وفائدة هذا النسخ إجمالاً أن يقال : إن إتيان الأحكام والأوامر والنواهي في القرآن يكسبها من القوة والاهتمام ما لا يوجد فيها إذا جاءت في السنة . وهذا لا خلاف فيه . فكان من المصالح التي تذهب مع الزمن جزراً ومداً أن تكون بعض أوامر الله ونواهيه بعض الأوقات في السنة . وأن يكون بعضها في السنة مطلقاً ، وبعضها في القرآن مطلقاً ، وبعضها في السنة والقرآن معاً . وفي ذلك كله من الأسرار العالية ، والأغراض الشريفة ما يجعل المتأمل يقف أمامها حائراً مشدوهاً . فالأحكام الطلبية والإخبارية التي نسخت تلاوتها من القرآن كانت الحكمة أن تكون فيه أول الأمر لتدل على الاهتمام والعناية . وفي الآخر أن تكون في السنة لحكمة أخرى. فوجب علينا الإيمان بذلك . والذين اشتبهوا في نسخ التلاوة ، وقالوا إذا ما جوزنا هذا النسخ جاز الضياع ، لأن النسخ والضياع يجتمعان في أنهما كليهما ليسا في القرآن فاتهم أن النسخ لا يكون إلا بأمر الشارع ، وبعلم الذين يحفظون القرآن أيضاً ، وعلم المكلفين ، فلا يلزم ما ذكروا .
أحاديث التصوير
تكاثرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصور ، وذم المصورين ، وأوعدهم بغضب الله فقال عليه السلام : " إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين " وقال : " قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا شعيرة " وقال : " من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " هذه أحاديث في الصحاح لا خلاف بين حملة الأخبار في صحتها . وكان عليه السلام لا يدع في منزله صورة إلا هتكها ومزقها . وكان يغضب إذا رأى شيئاً من ذلك ، ويأبى أن يدخل بيتاً فيه شيء منه ، ويقول : ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ) ولم يفرق بين أنواع الصور ، ولا أجاز غير المجسمة وغير ذات الظل كما يتوهم أقوام . بل الأخبار عنه عليه السلام وأسبابها وروحها ومغزاها تدل على أنه لا فرق بين ذلك . بل النهي آخذ ذلك كله . والحكمة تأبى إلا أخذه كما سوف ترى .هذه أخبار تلقاها المسلمون في صدر الإسلام ، فسهل عليهم العمل بها ، فعملوا بها ، ولم يجدوا بينهم وبين العمل به مانعاً ، ولا وجدوا في ذلك إشكالاً . فلما جاءت الحضارة الحاضرة بفنونها وزخرفتها ، وانتشرت الصور والمصورين ، وإمتلأت الدنيا بذلك ، ووجدت الصور في كل بيت وفي كل يد ، وفي كل جدار ، بل وكل شيء في الدنيا ، حينئذٍ وجدوا هذه الأحاديث مشكلة ، ووجدوا العمل بها لا يستطاع ، بل لا تستطاع معايشة من يريد العمل بها . فالصور والمصورون ، لازمة من لازمات الحياة في هذا العصر ، لا يمكن الغنى عنها . فالتصوير يحتاج إليه في الطب وفي السفر ، وفي الجغرافيا ، وفي الإستعانة على إصطياد المجرمين ، والتحزير منهم ، وفي ضروب العلم كلها ، فصار الناس في هذا طرفين : مُفْرطاً ومُفَرِّطاً ، ولا خير في الإفراط والتفريط . طرف منع التصوير مطلقاً ، ولم يجوز منه شيئاً ، وإن كان لازماً من لازمات الحياة والعلم . وهذا الطرف هو طرف الجمود والركود ، الذي يعج منه العلم إلى الله عجيجاً . وطرف أباح التصوير مطلقاً ، ولم ير منه شيئاً حراماً ، وإن كان-118-تماثيل ، يجعل خزانة الأمة يباباً تشكو الفاقة والفقر ، وإن كان صور نساء عاريات فاتنات تجر إلى الأخلاق والأعراض والويلات ، وتذبح الفضائل ذبحاً . وهذا الطرف هو طرف المروق والإباحة . ولاحق ضائع بين هذين الطرفين يستصرخ أهل الإعتدال والإنصاف ، وينادي من يأخذ بيده .ونحن نقول إنه لمن الظلم الممقوت أن نجوز هذه التماثيل الهائلة المقامة على عمد الذهب والفضة ، والتي تأتي على مال الدولة فلا تدع فيه شيئاً في زمن يبكي فيه أكثر الأمة المسكينة جوعاً وعرياً . وليس لهذه التماثيل فائدة تحس أو تعقل ، لا للفرد ولا للجماعة . لا شك في أن مثل هذا لا يجوز في دين ولا عقل . ومن العدوان على الأديان والفضائل أن تباح هذه الصور العاريات المفضوحات ، وأن تتناقلها أيدي العذارى الملتهبات شباباً وصبوة ، والشبان الذين يذوبون صبابة في كل وجه حسن ، ولو على الورق ، أو في أخيلتهم ، وأن تمتلئ أعينهم بها . ولا يفارقنا الصواب إذا قلنا إن هذه الصور العارية من أقوى عوامل ما نراه اليوم في هذا البلد من فساد الأخلاق وخروج على الفضيلة والدين ، بل هو من العوامل القريبة للأزمة الزوجية التي يعانيها اليوم كل بيت حقير أو رفيع في مصر وغيرها .فمن أحل هذا النوع من الصور فقد جنى على الديانات والأخلاق والوطن شر الجنايات . كما أن من حرم الصور التي يستعين بها الطب والعلوم فقد جنى على الوطن والعلوم شر الجنايات ، بل وعلى الدين ، واجتهد في التنفير عنه عنه وفي تشويهه .إذاً فالتصوير قسمان : حرام وحلال . وضار ونافع . والمصورون كذلك فريقان : مفسدون ، ومحسنون . فالقسم الأول هو الذي عنته الأحاديث ، وزجرت عنه ، لأنه هو الموجود في عصر النبوة ، والموجود في بلاد العرب ، فهو الذي قيلت الأحاديث بمناسبته . والقسم الثاني هو الموجود الآن عند الأطباء وأهل العلوم ، وما كان في ذلك العصر موجوداً ولا معروفا ، ولا سيقت الأحاديث لأجله . وهو الذي عناه الله بقوله تعالى في سورة سبأ لسليمان عليه السلام ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) .فالقول الوسط إذاً الجامع بين أخبار الدين والعقل أن التصوير المفسد الضار حرام ، لا يجوز ، ولا يحل ، وهو الذي أوعدت عليه الأحاديث الصحيحة . وأن التصوير النافع ، -119-المستعمل في الطب والعلم ، ليس من ذلك، وليس مما تناولته هذه الأحاديث بالتحريم والوعيد ، بل هو ما عنته هذه الآية الكريمة .أما الذين يفرقون بين الصور المجسمة وغير المجسمة ، فيحرمون الأولى مطلقاً ، ويحلون الأخرى مطلقاً فليسوا على صواب في ذلك . ولا يعضد قولهم عقل ولا نظر . فإن من الصور غير المجسمة ما لا يشك في حرمته ، كصور النساء العارية المسودة بها صحف هذا العصر ، وكصور الأنبياء والأولياء في المساجد والمعابد وغيرها . فإن ذلك مجلبة للفتنة وللزيغ ، كما تفعل صورة المسيح عليه السلام في نفوس من يغلون فيه . ومن الصور المجسمة ذات الظل ما يباح اتخاذها ، وذلك كلعب الأولاد من الحلوى والخرق كما كان ذلك لأم المؤمنين عائشة زوج النبي عليه السلام . فهذا القول غير مطرد ، وغير منعكس .على أنه ليس هنالك صور غير مجسمة ، فإن الصور كلها مجسمة . وذلك أن التصوير عرض لا بد أن يقوم بجسم . فالصور التي في الورق هي مجسمة وجسمها الورق ، كما أن جسم هذه التماثيل المنصوبة في الميادين هو النحاس . فالتفريق بين النوعين غير صحيح ، وغير موجود أيضاً . والحكمة التي يذكرها هؤلاء في تحريم الصور تبطل عليهم هذا التفريق . وذلك أنهم يقولون : إنما حرم الشرع الصور حذر الفتنة في الخلق وحذر الرجوع إلى عبادة الأوثان . فإن التماثيل والصور مما يحدث غالباً . فيقال : هذا الأمر الذي خافوا منه لأنه منشأ الفتنة في عبادة الصور ، موجود في الصور مطلقاً المجسمة وغير المجسمة وهذا لا ريب فيه . فمن ينازع فيما تحدثه صور الملائكة وعيسى بن مريم عليه السلام ، وصور الأولياء كالإمام الشافعي وغيره على الورق وعلى الحيطان لدى من يغلون فيهم ، ويسرفون في تعظيمهم ؟! ومن يشك في أنه لا فتنة في تصوير قائد من قواد الحرب والجيش ؟ على أن الأخبار كلها تدل على تحريم ما سموه غير مجسم . فقد كانت الصور تأتي على الأثواب وما شابهها لبلاد العرب فيأمر رسول الله عليه السلام بتمزيقها وهتكها ويحذر من اتخاذها . على أن غالب ما كان يوجد في الحجاز ذلك العصر هو الصور غير المجسمة . فكان رسول الله صلى عليه وسلم يحرمه ويأباه ولا شك انه إذا حرم الصور تناول تحريمه في أول ما يتناول ما كان موجوداً في بلاد من يخاطبون في التحليل والتحريم .
أحاديث المعراج
قد صحت الأخبار فيما لا يحصى من كتب الإسلام أن رسول الله عليه الصلاة والسلام عرج به إحدى الليالي ، قبل أن يهاجر إلى المدينة إلى السموات العلى ، حتى دنا من رب العزة وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه من الحكم والأحكام ما أوحي ، وفرض عليه الصلوات الخمس ، ورأى الأنبياء في السموات على تفصيل فيه ، ورأى آيات عظيمة كبرى لا يعلمها إلا الله . كل ذلك في ليلة واحدة ، ثم رجع به إلى مكة المكرمة في الليلة فأصبح يحدث الناس ببعض ذلك فصاروا ما بين مصدق ومكذب .روى ذلك أعلم علماء الإسلام، في أصح كتب الإسلام بعد القرآن . رواه البخاري ومسلم وعامة المحدثين ، وشاع بين الخاصة والعامة شيوعا يكفي بعضه أن يكون المعراج من المتواترات التي لا تقبل النزاع . وقد جهر القرآن بذلك أيضاً ، فقال في سورة النجم ( والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ، ذو مرة فاستوي ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمرونه على ما يرى ، ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى )فالمعراج ثابت في القرآن ، وفي السنة المتواترة ، فهو من يقينيات الدين . هذا إجمال أمر المعراج بلا تفصيل لكل ما حصل في تلك الليلة العظيمة .وقد استشكل فريق من الماديين ، ومن يأخذون أخذهم من المسلمين أمر المعراج فأنكروه ، ووجهوا إليه ما يأتي من الشبهات :قالوا أولاً : إن الأحاديث تدل أن الإسراء في سـورة الإسراء منوهاً بشـأنه قال : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ) ولم يذكر المعراج والمعراج بلا ريب أعظم من الإسراء ، وأرفع . فلماذا-121-ذكر الإسراء دون المعراج ، وهما في ليلة واحدة وفي طريق واحد ، وأحدهما بعد الثاني ؟ ليس لهذا السؤال جواب مرض إلا أن يقال : إنه لم يكن معراج ، أو يقال إن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة أخرى . وهذا القول خلاف الأحاديث .وقالوا ثانياً : إن الأخبار في المعراج فيها اختلاف كثير ، حتى وقع الاختلاف في الأحاديث الصحيحة منها . ففيها اختلاف هل كان يقظة أم مناماً . وهل كان الإسراء والمعراج في ليلة أم في ليلتين . وهل كان بالروح وبالجسد أم بالروح فقط . وبالجملة وقع اختلاف كثير في كثير من أمور المعراج . والاختلاف إذا اشتد يوجب سقوط الروايات وتساقطها .وقالوا ثالثاً : في أخبار المعراج ما هو محال لا تمكن صحته . ففيها أنه صلى بالأنبياء في بيت المقدس ، وأنه رآهم في السموات ، ورأى موسى يصلي في قبره . فهل يمكن ذلك ؟ أوليس في هذا ما يشهد على أن الشخص الواحد قد توجد له عدة ذوات إلا أن قال : إن الأنبياء كانوا في تلك الليلة ينقلون من مكان إلى مكان ، فرآهم في الأرض ، ثم عرج بهم إلى السموات فرآهم هناك ، وهكذا يقال في صلاة موسى في قبرهوأيضاً كيف ذلك ؟ فهل أحياهم الله في تلك الليلة ؟! أم الأنبياء أحياء لا يموتون . وأنتم لا تقولون بذلك ، وهو خلاف النص ؟! أو ليس قد صح عن رسول الله انه قال " اذا مات ابن آدم انقطع عمله " إلى آخره ؟! فصلاتهم في بيت المقدس وصلاة موسى في قبره مخالفة هذا الحديث . فأيهما يقبل وأيهما الصحيح !!وأيضاً قد رأى النيل والفرات عند سدرة المنتهى ، وهذان نهران في الأرض . فكيف يمكن هذا ؟! .وأيضاً إنه قد رأى نسمات الكافرين والمؤمنين في السماء عن يمين آدم وشماله . وقد قال الله تعالى ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سـم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ) فهل نقبل الروايات ، وقد خالفت القرآن الكريم ؟! ثم هل الأرواح ترى ؟! وهل هي مدركات البصر ؟! وأيضاً في الروايات أن الملائكة قد شقوا صدره عليه السلام قبل أن يعرجوا به ، -122-وأخـرجوا منه نصيب الشـيطان ، وملؤوه حكمة وإيماناً . وفي هذا كـله غرابة وبعد عـن العادة .هذه الأمور كلها تدل على اختلاق الروايات في المعراج . فإن من الدلائل على كذب الرواية أن تحمل ما لا يعقل .وقالوا رابعاً : إن الهواء يوجد فوق الأرض عدة أميال فقط ، وبعد ذلك يفقد ، والهواء ضروري للحياة . فلا يعيش إنسان ولا حيوان بدونه ، وبدون أن يملأ رئتيه منه . فلو كان رسول الله ? عرج به إلى ما فوق الهواء لما أمكن أن يبقى حياً .وقالوا خامساً : إن أخبار المعراج تدل على أنه فتحت له أبواب السماء . ونحن نعرف أنه ليس للسموات أبواب تفتح بل السموات لا تقبل الخرق والالتئام .وقالوا سادساً : الروايات تدل أيضاً على أن السموات سبع وأنها غير النجوم المعروفة لأهل التنجيم والفلك . وهذا كله غير صحيح .وقالوا سابعاً : الأخبار تقول إن ذلك المعراج وقع في ليلة واحدة . وهل هذا يستطاع . وكم بين السماء والأرض من المسافات . هذا ما لا يكاد يصدقه العقل .هذه شبهاتهم على المعراج . وغالب هذه الشبهات هي في الحقيقة شبهات من ينكر القادر المختار . فهي شبهات على جميع الأديان ، وعلى المعجزات عامة . وهي شبهات مادية إلحادية صرفة .أما قولهم : لماذا لم تذكر سورة الإسراء المعراج مع الإسراء ، وهما في ليلة واحدة . فنقول : إن العلماء قد اختلفوا هل كان المعراج والإسراء في ليلة أم ليلتين . قال بكل طائفة . واحتجت كل طائفة بروايات . فقد جاء في الروايات الصحيحة ما قد يدل على أنهما كانا في ليلة واحدة وجاء فيها ما قد يدل على أنهما كانا في ليلتين . وعلى الرأي الأخير يسقط هذا السؤال جملة . وعلى الأول نقول : إن لله تعالى حكمة بالغة في ذكر الإسراء في السورة دون المعراج . وذلك أن الله علم أن المشركين والمخالفين سوف ينكرون ذلك كله إذا ما حدثهم به رسول الله عليه السلام ، وسوف يهزؤون برسول الله من أجله . وقد حدث هذا . أما الإسراء فانه يقدر أن يصدق قوله إذا كذبوه بأن يذكر لهم بيت-123-المقدس ، وصفة المسجد الأقصى ، فينتصر عليهم ، وتكون له الحجة . وهذا قد كان . وأما المعراج فبماذا يكذبهم إذا كذبوه ، وبماذا يصدق قوله ؟! فلو نعت لهم السماء وما رأى فيها لما كان في ذلك مقتنع لهم، ولا حجة عليهم لأنهم لا يعرفون ما هنالك. فكان من الحكمة البالغة أن يذكر في سورة الإسراء التي تتلى على المشركين المعاندين الإسراء دون المعراج، حكمة منه بالغة.على أن الإسراء إلى بيت المقدس إنما كان مقدمة للمعراج، وطريقاً إليه، على القول بأنهما كانا في ليلة واحدة. قد يكون حينئذٍ من الجائز المناسب المعهود أن يذكر الإسراء دون المعراج، لأنه إذا ذكر الإسراء علم أنه يعني به ما بعده. ومن أجل ذلك يذكر كثير من المؤلفين المعراج في باب الإسراء. والقرآن يقول ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ) وهذه الآيات فيما يبدو ، ولمن فكر جيداً ، هي الآيات التي رآها في المعراج . فأشار إلى المعراج بما وقع فيه من الآيات والعجائب . وليس بلازم ذكره نصاً . ثم إن المعراج قد ذكر في سورة النجم كما تقدم . فذكر الإسراء في سورة ، وذكر المعراج في سورة أخرى , وما في هذا شيء من الغرابة .وأما قولهم: إن الأحاديث متخالفة . فنقول : إن الاختلاف لم يقع في أصل المعراج . فإن الروايات كلها مجتمعة على وقوع المعراج ، وإنما كان بعض الاختلاف في بعض صفاته وهيئاته ، كما ذكرنا . وقد قدمنا في أحاديث انشقاق القمر وأحاديث الدجال أن كل أمر عظيم ذي بال لا بد أن يقع في صفته وهيئته وشكله اختلاف ، وأنه على قدر عظمه يكون الاختلاف في ذلك . ولكن ذلك الاختلاف لا يقدح في وجود ذلك الأمر الذي اختلف في صفاته يقيناً . وقدمنا هنالك أن الاختلاف قد وقع في صفات الرسول ، والملائكة ، والجنة ، والنار ، وفي الحساب والعقاب ، وفي أعمال الرسول عليه السلام ، وفي سائر عظماء التاريخ ، ولم يدل هذا على أن هؤلاء لم يوجدوا عند أحد من خلق الله . فكذلك أحاديث المعراج لا يدل الاختلاف في بعض صفات المعراج على أن المعراج لم يقع . وهذا ضروري .-124-ونحن هنا لا نتعرض للتوفيق بين الروايات نفسها . فإن ذلك ليس مما قصدنا له في هذا الباب . على أن من حاول أن يجمع بين الروايات كلها في المسائل الكبيرة كالمعراج ، والدجال ، وأحوال الساعة فقد حاول محالا في رأينا . إذ لا بد أن يكثر الدخيل في ذلك لكثرة التحديث به ، وكثرة روايته ولاشتهاره والعناية به .وأما قولهم : إنه وقع في أخبار المعراج أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة ، فلا يمكن أن تكون الأخبار إذاً صحيحة . فنقول : هذه الأشياء المذكورة إما أن تكون محالة الحصول ، كانت أخبارها هي الكذب فقط دون أخبار المعراج . ولا مانع أن يقع في الحادثة الواحدة صدق وكذب ، ومحال وجائز ، فيكذب الكذب والمحال ، ويصدق الصدق والجائز . وذلك كالأخبار عن حاتم الطائي بالكرم ، وعن عنترة بالشجاعة وعن قيس بن الملوح بالعشق . فإن الأخبار عنهم بما اشتهروا به جمعت صدقاً وكذباً ، ومحالا وجائزاً . ولكن كذبها لا يقضي بأن يكون صدقها كذباً ، وصدقها لا يقضي بأن يكون كذبها صدقاً . فالأخبار عن حاتم بالجود متواترة ، ولكن دخلها مبالغات لا يقبلها العقل ، ولكن يصدق مطلق الجود له ، وكذلك الأخبار عن عنترة بن شداد بأنه شجاع متواترة ، ولكن دخلها مبالغات لا يصدقها العقل ، ولكن يصدق مطلق الشجاعة له . وكذلك الأخبار عن قيس بن الملوح متواترة بأنه كان عاشقا ، ولكن دخلها مبالغات لا يصدقها العقل ، ولكن يصدق مطلق العشق له . وكذلك حصل في أخبار جميع الرجال المشهورين ، وفي الأحداث الكبيرة . فوقع فيها مبالغات لا تصدق . وقد وقع ذلك في معجزات الأنبياء وكرامات أتباعهم ، وفي أخبار الجنة والنار وما بعد الموت ، وهذا لا يقدح في الحق منه . ومثله أخبار المعراج إذا افترضنا أنه وقع فيها ما لا يكون وجب رده هو دون أصل المعراج . وهذا واضح . هذا على الفرض الأول . وأما إن افترضنا أن الأشياء المذكورة غير محال حصولها بطلت الشبهة رأساً . فهذه الشبهة لا تقدح في المعراج على جميع الافتراضات .على أن هذه الأمور المنكرة عندهم قد وقعت في أخبار الإسراء . فهل يكذبون الإسراء لذلك ، والإسراء مذكور في القرآن ؟! على أننا نجاوب عن الأمور المذكورة واحداً فواحداً ، لا لأن إشكالها يقدح في المعراج ، بل لأنها هي في نفسها مشكلة عند هؤلاء . -125-وكتابنا هذا للمشكلات .أما رؤيته ? الأنبياء في بيت المقدس ، ثم رؤيته لهم بعد ذلك في السماء ، ففي هذا تفاسير كلها صحيحة :أولها ـ أن يكون الذي رأى هي الأرواح ، رآها في بيت المقدس ، ثم عرج بها إلى السموات فرآها هنالك . وقد قدمنا الكلام على الأرواح في أحاديث عذاب القبر .ثانياً ـ أن يكون الله خلق له عليه السلام أشخاصهم ، فرآهم في السماء وفي الأرض لحكمة بالغة .ثالثها ـ أن يكونوا مثلوا له تمثيلا . فرآهم وخاطبهم ، وخاطبوه .هذه التفاسير ثلاثة ، وكلها لها نظائر في فعل الله وفي علوم هذا العصر أيضاً . وليس المعنى في هذا أن تكون الذات الواحدة في مكانين في وقت واحد . لا وقولهم : كيف يصلون والميت ينقطع عمله كما قال عليه السلام : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله " الحديث . يقال عليه : إن سنة الله المطردة الغالبة أن الإنسان إذا مات انقطع عمله كما في الحديث المذكور ولكن الله قد يخلق خوارق : إما معجزات لرسله ، أو كرامات لأوليائه . كما ذلك للأنبياء وللأولياء في مواضع معلومة . ولكن ذلك لا يتخذ سنة عامة وأمراً مطرداً شأن المعجزات والكرامات والخوارق . فالحديث الذي يخبرنا بانقطاع الأعمال يخبرنا عن السنة العامة في الأموات. وصلاة الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج هي من قسم الخوارق . والخوارق يؤمن بها المؤمنون والكافرون . إلا أن الكافرون يسمون ذلك فلتات الطبيعة ، كما يجعلون ما في الكون من حكمة ونظام من ناموس الطبيعة ، وقد كانت ليلة الإسراء والمعراج كلها خوارق وعجائب . وليس ما حصل فيها طبق السنة العامة المطردة ، ولا ريب في هذا . وقد صح في الأحاديث المتكاثرة أن بعض الأحجار والأشجار والجماد والحيوان كان يخاطب رسول الله ? ، وكان يعقل عنه . وليس معنى هذا أن هذا سنة الأشياء ، وإنما ذلك كله خوارق للناموس العام الشائع . فليراع هذا هؤلاء الذين يجعلون صلاة الأنبياء في ليلة المعراج دليلا على أن الأنبياء أحياء حياة مادية-126-كحياتهم قبل أن يموتوا . بل قد يقولون : إن حياة الأنبياء ، وتصرفهم في موتهم أكمل من ذلك في حال الحياة . وهذا غلط شائع . وإلا فما معنى الموت حينئذٍ ؟! إنه لا موت على رأيهم . وهذا خلاف الدين والضرورة والإجماع .وأما إنه رأى النيل والفرات في السماء وهما نهران في الأرض ، فقد سلف الكلام على ذلك في بحث خاص .وأما إنه رأى نسمات الكفار في السماء والله يقول : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة ) فيقال : إن الآية في جانب والحديث في جانب آخر ، فالآية تعني أن الكفار لا يدخلون الجنة وقوله بعد ذلك ( ولا يدخلون الجنة ) كالتفسير لذلك . والحديث دل على أن أرواح الكفار قد يعرج بها إلى السماء حيناً لحكمة ، كما فعل في المعراج على أنه مثلت له أرواحهم تمثيلا ، فرأى مثلها لا أعيانها .وأيضاً الآية تعني أن الكفار في الشأن الغالب لا يعرجون إلى السـماء شأن المؤمنين . فأن المؤمنين يعرج بهم حين الموت إلى السماء وأما الكفار فيذهب بأرواحهم إذا ماتوا في أسفل سافلين . هذا هو ما تعنيه الآية ، ولا تنفي أن يذهب بأرواحهم يوماً لحكمة إلى السماء على أن مثل هذه العبارة قد تعبر عن الرحمة والقبول ، كما يعبر عكسها على عكس هذا المعنى . فيقال مثلا : هذا دعاء تفتح له أبواب السماء ، وهذا عمل تغلق دونه أبواب السماء . ويراد بالأول أنه دعاء مرضي مقبول ، وبالثاني أنه عمل غير صالح ، فهو مردود . فكذلك قول الله ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) يريد أنهم بعداء مغضوب عليهم وقد يقول العربي صاحب اللسان " لا تفتح لفلان أبواب الملوك " . ولا يعني بقوله هذا أنه لا يدخل على الملوك أبداً ، وإنما يعني أنه ليس بصاحب جاه ولا مقام عند الملوك ، ولا ممن تعظهم الملوك ، كما يدل عكس العبارة على عكس المعنى . ثم إن الآية تريد أنهم بأجسامهم لا يدخـلون في ملكوت السماء ، وفي حديث المعراج رأى أرواحهم فقط .وأما قولهم : وهل الأرواح ترى . فيقال في الأرواح مذهبان : الأول ، وهو القول الصحيح ، لا ريب أن الجواهر ترى ، وأنها من مدركات الأبصار . وعلى المذهب الثاني-127-يقال : لا ريب أن الأعراض والمعاني ترى إذا مثلت أجساماً . وقد كانت المـلائكة يتمثلون ، وكذلك الجن . ومستحضروا الأرواح الآن مـن الفرنج وغيرهم يدعون أنهم يرون الأرواح ، وأنها تخرج لهم بصور أناس محسوسين فيحسونها . وهذا يوافق آراء طوائف من علماء الإسلام سلفوا ، وعلى كل حال ليس هذا خارجاً عن متناول القدرة الإلهية .وأما قولهم : إن الملائكة شقوا صدره عليه السـلام . فنقول : هذا حق لا شيء فيه . والجراحون الآن من الأطباء يعلمون عمليات في الجراحة هي أعظم من هذا .وأما قولهم : إن الهواء يفقد بعد أميال فوق الأرض ، فلا يمكن أن يعيش أحد فوق منقطع الهواء . فنقول : نحن لا نريد أن نجادل هؤلاء كما يجادلهم فريق من المؤمنين بتلك الطريقة التي لا نرضاها المنطق ، وهي أن نجتهد بأن نقيم لهم الدلائل على أن ذلك الأمر جار على ناموس الطبيعة المطردة ، وأنه مألوف في الخلق معروف ، وليس غريباً في بابه . فإننا إذا ما فعلنا ذلك أخرجنا ذلك الأمر عن أن يموت معجزاً ، وأن يكون من خصائص النبوة . وهذا صنع من لا يقر بالإله القادر الفعال ، وصنع من ينكر الرسالة والمعجزات والخوارق . وهذا هو أصل الدين وعماده .وإنما الطريقة التي نرضاها ، ويرضاها المنطق في إثبات هذه الحقائق أن نقول لمن يخاطبنا في ذلك : إما أن تكون مؤمناً بالله وبالرسالة والرسل ، أو تكون منكراً ذلك ، غير معترف بشيء منه . فان كنت الأول لم يكن علينا إلا نبين لك أن هذا الأمر قد جاء بسند صحيح عن صاحب الرسالة ، وهذا الأمر كاف بالإثبات لأن الأمر جائز ، وإنما يتوقف إثباته على ثبوت سنده . وإن كنت الآخر قلنا لك : أنت إلى إقامة الدلائل على الإله والرسول أحوج منك إلى إثبات المعراج ونحوه من جزئيات الدين . هكذا يكون أسلوب الجدل والرد على المنكر . وليس من الأسلوب الصحيح ، والطريقة المرضية في البحث أن نجيء من ينكر الله ، وينكر أنبياءه وكتبه ، ونتعب أنفسنا في سبيل أن نقنعهم بأن المعراج ونحوه ليس خارجاً عن ناموس الطبيعة ، ولا مما يختص به صاحب الرسالة ، ولا مما يدل على العناية والإصطفاء. فإننا في مثل هذا لا نصل إلى النتيجة التي نحاول الوصول إليها، -128-وهي أن تثبت أن محمداً رسول الله ، بل نحن نسعى في صد الناس عن الإيمان بذلك ، لأننا إذا أقنعنا ذلك المخالف بأن المعراج ليس مما يخص رسول الله بل يكون ذلك له ولغيره على حسب نواميس في الطبيعة نزعنا الإعجاز من ذلك . وهل يكون الرسول رسولاً إلا بالمعجزات ؟! .ومن العبث واللعب في البحث أن نذهب لنقيم الدلائل على المعراج لإنسان يجهل قدرة الله ، أو يجهل الله ذاته ، وينكر المعجزات والآيات وجميع الخوارق ، ولا نبدؤه بإثبات هذه الأمور قبل كل شيء ، بل يلزم أن نبدأه بإقامة الدلائل على الله وعلى قدرته ، وأنه يفعل ما يشاء . ولكن أساليب البحث في هذا العصر عقيمة غير منتجة . والناس متقدمون في عصرنا في الحسيات والتجريبيات ، متأخرون في العقليات والنظريات . وليس بين الأمرين تلازم . فإن الأطفال والصناع يحذقون الأمور الراجعة إلى التجارب ، ولكن يجهلون الأمور الراجعة إلى العقل والنظر . بل الأمور التجريبية قد يعرفها الحيوان الأعجم ويتقنها ، ولكن لا يعرف شيئاً من العقليات . وأنت إذا ما تدبرت هذه المناقشات والمساجلات التي تتردد في الجرائد والمجلات والكتب الحديثة رأيت ما رأينا في أهل هذا العصر من تأخر الأساليب المنطقية الجدلية .هذه هي الطريقة التي نرضاها ويرضاها المنطق . وإلا لو أردنا الطريقة التي لا نرضاها ولا يرضاها المنطق لقلنا لهؤلاء المخالفين يا سبحان الله ! هؤلاء الفرنج يحاولون الطلوع إلى القمر والمريخ ويأملون أن يكون ذلك يوماً ، ويصدقهم هؤلاء في هذا الأمل ، ولا يعدونه محالاً على قدرتهم . فكيف لا يسلمون مثله لقدرة الله جلت قدرته ؟! أليس هذا هو النقص في التفكير الذي ليس بعده نقص !؟ أوليس الذي خلق الهواء وخلق الإنسان ، وجعله محتاجاً إلى الهواء والنفس قادراً أن يجعل عباده مستغنين عن الهواء عائشين بدونه ؟! أوليس الذي جعل الأجنة في بطون الحاملات يعيشون بدون هواء ولا نفس ، والذي جعل الأسماك تعيش في بطون البحار ولا تحتاج إلى ما يحتاج إليه حيوان البر من الهواء والتنفس قادراً أن يجعل من يشاء من عباده غنياً عن ذلك ؟! أوليس الهواء وما فوق الهواء خاضعاً لله تعالى ، والله قادر أن ينقله من مكان إلى مكان حسب ما يريد ، -129-وحسب ما يشاء ؟! وهذا الإنسان الضعيف ، يتلاعب الآن بالهواء ، ويسخره ، فيسوقه من مكان إلى مكان ، ويفرغ منه ما يشاء ، فيجذبه إلى الغواصات والغواصين في أعماق البحار . فكيف يعجز الله الخالق لكل شيء عما استطاع الإنسان الضعيف الذي لا يعيش من ضعفه بدون الهواء ؟! .إن فقراء الهند يروضون أنفسهم مدة فيأتون بالعجائب ، ويستطيعون الحياة بدون الهواء والتنفس أزماناً . وقد روت عنهم الصحف أن الواحد من هؤلاء يلقى في قارورة وضع فيها زيت ، فيقفل عليه ويحكم القفل ، بحيث لا يجد الهواء إليه سبيلا ، فيبقى كذلك أسابيع ثم يخرج حياً . وقد روت إحدى الجرائد المصرية ، وروى الشيخ رشيد رضا في وحيه أن واحداً من هؤلاء سدت جميع المنافذ في جسمه التي يدخل منها الهواء بالقطن ، ثم وضع في صندوق وقفل وأحكم قفله ، ثم دفن في الأرض فظل أربعين يوماً كذلك ، ثم أخرج حياً . عمل هذا وأدخل وأخرج على أعين طائفة من الزعماء والأطباء . فكيف يعجز الله عن مثله ؟! .وأما قولهم : إن السموات ليست لها أبواب ، فهو قول مجرد ، ودعوى لا سند عليها . ومن أين علموا أن السموات ليست لها أبواب ولا مفاتيح ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ( ويخلق ما لا تعلمون ) . وفي القرآن ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) وما ادعى أحد من علماء الشرق ولا الغرب أنه أحاط بكل شيء خلقه الله علماً . وهؤلاء إذا كانوا يطلبون منا أن نترك نصوص الدين بلا دليل ، فكيف نقبل قولهم بلا دليل ؟ذ على أنه لو صح ما قالوا لما كان هذا مخالفاً له . فان قوله فتحت أبواب السماء ، وأمثال هذا القول ، ليس صريحاً بإثبات ما نفوه . فإنه يقال : اللهم افتح لنا أبواب رحمتك . اللهم أفتح لنا أبواب فضلك . ولا يراد بأمثال ذلك الأبواب حقيقة ولا الفتح حقيقة .أما قولهم : إن السموات لا تقبل الخرق والالتئام ، فهو وهم مجرد ما لهم عليه من سلطان . على أنه لم يكن في أخبار المعراج خرق ولا التئام ، وإنما فيها فتح . وقد قدمنا الكلام في الفتح .وأما قولهم : إن الأخبار تدل على أن السموات سبع ، وأنها غير الأفلاك المعروفة -130-لأهل النجوم والفلك . فيقال : عدد السموات مذكور في القرآن الكريم , وفي الأحاديث المتواترة . ليس ذلك من فرائد حديث المعراج . ولا شك في وجود سموات سبع عند أحد من العلماء والخلاف إنما وقع في تعيين هذه السموات ، لا في وجودها . وأحاديث المعراج لم تعيينه . فإن كان ما يعتقده الجمهور في السموات السبع باطلا , لم يكن غيره باطلاً . وما قال عالم إنه علم كل شيء في الوجود . والعلماء الآن متفقون على أن الفضاء لا نهاية له ، ولا حد له . وإذا كان ذلك كذلك فالمخلوقات في هذا الفضاء الذي لا يحد لا يقدر أحد على إدراكها ورؤيتها كلها . فإن التلسكوبات يرى بها إلى حد محدود ، ثم ينتهي الإدراك بها . فمن أنكر السموات السبع على مقتضى الأحاديث لأن التلسكوب لم يرها فقد جعل هذه المقدمات ، وجهل ما عرف ، وأنكر ما اعترف به . أي إننا نقول : إن السموات السبع هي غير النجوم التي رآها الناس اليوم ، والتي عرفها الفلكيون إلى اليوم ، وهي سموات طباق سبع ، بعيدة جداً في الفضاء الذي لا نهاية له ولا حد له باعتراف جميع الفلاسفة الحاضرين والماضين . فالإنسان إلى الآن لم ير هذه السموات ببصره المجرد ، ولا بآلاته المقرِّبة المعظِّمة , وليس له أن ينكر ما لم يره لأنه لم يره , وقد اعترف أن الفضاء لا نهاية له .وأما قولهم : كيف يقطع هذه المسافات في ليلة واحدة . فنقول : هذا راجع إلى قدرة الله , وإلى الإيمان به . فالذي ينكر المعراج لذلك يكون منكراً الله ومنكراً قدرته . وهذا أحسن طريقة في إقناعه أن يقام له على الإله القادر الذي يفعل ما يشاء . فإذا عرف الله وقدرته سهل عليه الجواب عن هذا , وسهل عليه معرفته . أما أن نذهب لنقيم له الدليل على إمكان أن يقطع المسافات الطويلة في ليلة واحدة , وهو ينكر الله , وينكر قدرته فمما لا يجوز المنطق الذهاب إليه . وما يكون المعراج والإيمان به في جانب الله والإيمان به !! وأما إذا كان المعارض بهذه الحجة مؤمناً بالله , وبأنه خالق السموات والأرض والوجود كله ، وخالق المسافات والأبعاد والقوى فلن يصعب عليه الإيمان بأن يعرج برسوله إلى أبعد ما يريد ، ويرجعه في ليلة واحدة بلا عجز ولا تعب . وليس عروجه برسوله في ليلة واحدة بأشق على قدرة الله وأغرب فيها من خلقة الإنسان وما -131-أودع فيه . وليس أعجب من خلقه لعينه الباصرة التي يرى بها على حقارتها هذه المرئيات من الأجرام السماوية ، وبيننا وبينها مئات الملايين من الأميال في أقل من ثانية . وليس أعجب من أ خلق لنا من هذه النطفة البيضاء السائلة ومن الخبز الذي نأكله ، هذه العقول الجبارة ، والعلوم التي لا تنتهي ، والحواس العجيبة . ولكن الشيء إذا كثرت رؤيته نزعت منه العبرة .ولو فرضنا أن الإنسان لم تخلق له حاسة البصر ، فحدث عنها وعن بلوغها المسافات الطويلة ، وإدراكها في أقل من ثانية ما لا ندركه آلاف الأعوام سيراً لعد هذا ضرباً من الخيال والوهم ، ولعده أغرب من المعراج وقصته . ولو أن إنساناً خلق طوراً واحداً كامل الخلق كما خلق جدنا آدم ، فرأى الناس الرجال البالغين الكاملين ، والنساء البارعات جمالا . اللاتي لا تشبع منها العين والبصر ، وحدث عن مبدأ هؤلاء ، وعن أصلهم ، وأنهم كانوا يوماً من الدهر نطفة من هذا الماء الدافق الأبيض المستقذر ، أو تراباً ، لما أمكن أن يصدق ذلك . ولو قيل له هذا ، وقيل له : إن واحداً من هؤلاء الرجال الذين تراهم عرج به ليلة إلى هذه الشمس ، أو إلى أرفع منها ، ثم نزل إلى الأرض في ليلة لعد هذا أقرب من الأول ، ولآمن بهذا العروج قبل أن يؤمن بأصل الإنسان وبدايته إن أمكن أن يؤمن . ولو أن أعقل العقلاء لم ير الشمس ولا القمر ولا الأجرام العلوية ، ولم يبرز إلى السماء ، فقيل له : إن فوق هذا البيت الذي أنت فيه سرجاً عظيماً ، أكبر من الأرض أكثر من مليون مرة ، معلقة في الهواء ، لا يحملها شيء ولا تقع لعد هذا الكلام من الخرافات ، ولعد هذا أغرب من المعراج في القدرة والندرة ، ولكننا الآن نرى الشمس والقمر وسائر الأفلاك فوقنا في الهواء ، ولا غرابة ولا عبرة . ولو حدث عن الجاذبية التي يعتمد عليها المعطلة في تعطيلهم ، وحاولنا أن يؤمن بها كما هي لحاولنا شططا .وفي كل شيء له آية تدل على أنه القادرعلى أن هذا الذي أنكروه لأنهم حسبوه بعيداً محالاً ، هم يشاهدون كل يوم مثله وأعجب . فإن بين الأرض والشمس مسافة ثلاثة وتسعين مليون ميل ، وهذه أنوارها تصل إلينا في أقل من لحظة . وإن النور يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلومتر .-132-وهذا النور الذي يقطع المسافات في هذه السرعة ، وقد حققوا أخيراً أنه مادة أي جوهر لا عرض . فإذا كان واهب الوجود وهب النور وهو جماد هذه السرعة والقوة ، فكيف يعجز أو يبخل أن يعطيها أفضل خلقه ؟! وإذا كان أعطاها هذا النور الحسي الذي يهدي الأبصار ، فكيف لا يعطيها ذلك البور صلى الله عليه وسلم الذي يهدي البصائر ؟! وشتان ما بين النورين على أن ما أحدث التلغراف والراديو من نقل الأصوات والكلام يقرب لهؤلاء المعراج ، ويقطع عليهم التعلل بالمسافات والأبعاد .وأخيراً فأغلب شبهات المعراج هي شبهات في الحقيقة على القدرة وهي لا تروج إلا عند من ينكر الإله القادر الفعال لما يشاء . وقد أصبح الإيمان اليوم بالقادر الفعال من الضرورات الأولية لا ينازع في ذلك إلا قوم يعشقون الإلحاد والكفر لذاتهما لأن أنفسهم تشتهيه ، لا لأن لديهم عليه براهين ومحاولتنا أن يؤمن هذا الصنف بالمعراج والإسراء وبالإله أيضاً عبث .ولو أن إنساناً ـ وإن خلق غبياً ـ فكر في أحقر عضو فيه ، وفكر فيما أودع من الحكم والأحكام والأسرار فيه ، وكيف جاء وفق المصلحة والمنفعة والحكمة ، وكيف كان في هذا المكان من البدن ، وكيف كان بهذا القدر وهذا الشكل وبهذا اللون والسعة . وفكر بعد في أصله ومادته التي بريء منها , وكيف كان في تنقله من طور إلى طور ، ومن خلق إلى خلق ، ومكيف كان ينمو باتزان وتناسب في جميع أعضائه ، وجميع جوانبه ، وعلى قدر موزون . ثم فكر فيما خلق حوله ليحفظه من التلف والضياع والأضرار المحدقة بالإنسان ، وكيف بقى كذلك مرعياً محفوظاً يؤدي مهمته ووظيفته أحسن تأدية . وفكر بعد ذلك في الشأن الذي خلق لأجله ، وفي الغاية منه . ثم فكر لو أنه بعكس ما كان وكيف يكون حينئذٍ : أقول لو أن إنساناً ، وإن كبر نصيبه من الغباوة ولا بلادة فكر في ذلك سواء أكان جاهلا أم عالماً ، وسواء أكان فيلسوفاً أم أمياً ، لكفاه ذلك دليلاً على القادر المختار الذي لا يؤوده شيء ، ولا يغلبه شيء ، ولرأى ذلك أغرب من جميع الخوارق من معراج وإسراء وغير ذلك . ولكن كما قلنا إذا كثرت رؤية شيء نزعت منه العبرة . على أن ما أحدث في هذا العصر من المخترعات والمبتدعات كاد يمحو حروف المستحيل ومتصرفاته -133-من قائمة الموجودات . ولو أن ما اخترع في هذا العصر من البدع الصناعية الأوربية جاء في القرآن أو غيره من كتب الله لقال الجاهلون إن هذا مستحيل ، ولكذبوه أعظم من تكذيبهم للمعراج والإسراء ، ولبدأوا بإنكاره وجحوده .ونحن كما قلنا لا نرى ما يراه بعض الناس في الرد على الجاحدين بأن نجتهد في أن نقيم لهم الدليل على أن الأمر الذي خالفونا فيه جار على نواميس الطبيعة وعاداتها ليس خارقاً ولا معجزاً . فهذا الرأي كما قلنا الإنتاج لا ينصر إيماناً ، ولا يكسر كفراناً ، والطريقة الجيدة في ذلك أن نقيم لهم الدليل قبل كل شيء على الإله الذي يقول للشيء كن فيكون ، الذي لا يغالب ولا يمانع . فإذا ما اعترفوا به لم يجدوا مـانعاً من أن يؤمنوا بالدين ، وما جاء به الدين من أمور تحار فيها العقول الجبارة . وإلا فإننا إذا ذهبنا وأقمنا لهم الدليل على أن هذا الأمر الذي جاء به الدين ، وجاء به الرسول ليس معجزاً بل هو أمر معتاد قد يكـون لغير الأنبياء ، فهل يكون ذلك برهاناً عندهم على الإيمان وعلى الرسالة ؟ اللهم لا . وبهذا فلتقاوم كل شبهة تعترضك أيها القارئ دون الإيمان والاطمئنان بالدين ، وما أخبر به الدين . ولتعلم أن الأديان كلها مبنية على الخوارق والإيمان بالخوارق . فهي كلها تحدث الإنسان ـ أشرف المخلوقات ـ كان سـلسـلة خوارق وعجائب . فأوله خلقة آدم وحواء ، وهو خارق الناموس العام ، وآخره بعث الإنسان بعد الموت ، ثم خلوده في الجنة أو النار وبقاؤه كذلك لا يموت ولا يحي . وهذا كله خارق ونادر . فلا إيمان إلا بالإيمان بالخوارق ، وبأن الله يفعل ما يشاء ويختار . ومن العجب أن يكون للملوك ، ومن دون الملوك ، أحكام استثنائية وخوارق في أفعالهم ، ولا يكون ذلك لملك الملوك الله رب العالمين .
مخاطبة الأموات
روى البخاري ومسلم أن رسول الله ? أمر بأربعة وعشرين صنديداً من صناديد قريش يوم بدر ، فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدر وقام على الطوى ، فجعل يناديهم -134-بأسمائهم وأسماء آبائهم " أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فانا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً " . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها . فقال رسول الله " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم لما أقول " .يستدل فريق نشأ في حجر البدعـة والخرافة بهذه القصة على بدعهم التي ابتدعوها ، وعلى لجوئهم إلى الموتى رغباً ورهباً وعلى سائر ما يأتونه عند القبور من محدثات ينبو عنها الذوق والعقل والدين . ويقولون : إذا كان رسول الله ? دعا الموتى الكافرين فكيف لا ندعو الموتى المؤمنين ؟! وإذا كانوا يسمعون فمن يعارض في دعاء من يسمعون ؟! وقد يرشحون قولهم هذا بإحضار الأرواح ومخاطبتها . وعلى ذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من هذه الخرافات لدى الأولياء وغير الأولياء من أبواب وجدر ، حتى ضج العقلاء والحريصون على الدين ، و على عقول الأمة وسمعتها من ذلك . وفعلوا ما فعلوا من أوهام سوداء سودت وجه الدين والمتدينين ، وجعلت للأعداء مقالا ومقدحاً في دين التوحيد ودين العقل والذوق . ولهذه البدع ـ كما يعلم المفكرون ـ أثر في إلحاد من يلحدون من شباب الإسلام ، أنفة منهم وإباء أن يدينوا ديناً يدعو إلى جعل الموتى المفزع والملتجأ ، وهم لا بصيرة لهم بالدين ، ولا يعرفون الدين غلا أنه ما يمثله هؤلاء الطائفيون بالأضرحة من العامة وأشباههم .ونحن نقول : نعلم بالضرورة والاستقراء التام والإجماع السلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين ما كانوا يدعون الموتى ، ولا يسألونهم ، ولا يرغبون فيهم ، ولا فزعون إليهم إذا حزبهم أمر . ولا كان أحد منهم يلجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى غير رسول الله ليكشف ما به من بلاء ، أو ليزيد ما به من نعماء ، أو ليلهمه رشداً أو ليدفع عنه كبدا . ولا كان أحد منهم يفعل ما فعله هؤلاء لدى المقامات من الطواف ، والالتزام ، والتقبيل ، والخضوع ، والخشوع ، والتوسل ، والضراعة ، والمسكنة . بل نعلم أن القرآن والسنة جاءا لإبطال ذلك كله ، ومحوه من الوجود , وإلحاقه بالجاهلية المحطمة المبادة ، كما أنه لا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله عليه السلام ما يجيز ذلك ، أو يحله لا إشارة ولا تصريحاً . بل -135-القرآن مملوء من النهي عن ذلك ، والزجر عن فعله ، ولا نشك أنه لو كان دعاء الموتى والتوسل بهم ديناً يرضاه الله ، أو يرضاه رسول الله ? لما أعرض عنه صحابة رسول الله ومن بعدهم من الأئمة ، فيهتدى إليه المتأخرون المقصرون في كل خير . ومن زعم ذلك فقد اتهم المسلمين الأوائل وقدح في علمهم ودينهم .ولقد يلزمنا العيب والسُّبة إذا حاولنا أن نقيم الدلائل على بطلان التوسل العامي الحاضر . وقد نهجو أنفسنا بذلك ، ونكون كمن قام يدلل على أن الشمس أضوأ من القمر ، وإن الناتج من ضرب الواحد في الخمسة يساوي خمسة . إن حالنا كحال هذا الذي يفعل ذلك حينئذٍ . ولكن لما فتن الناس بهذا التوسل ، ونشأ عليه الصغير والكبير حسبوه من الدين ومن الإيمان . وللإعتياد تأثير فعال في العقيدة . وإلا فمن ينازع في أن الاستغاثة بالموتى رجاء السعادة والمدد جهل وضلال . ومن يقول إن دين التوحيد والتنزيه يجوز هذه القاذورات التي تؤتى في الموالد ، وفي أحضان المقامات ، على حساب الدين وحساب التدين . وأي إنسان رزق ذرة منى عقل وإنصاف يقول إن الدين الإسلامي يجوز لمعتنقيه أن يسألوا الموتى التوظيف والتزويج والشهادات وفك المغلق من المشكلات ، من دينيات ودنيويات ، كما نشاهد ذلك كله عند هؤلاء الصالحين رضي الله عنهم ؟! ومن يقول من المسلمين إن من الإسلام أن يقف المسلم الموحد أمام الميت المدفون في التراب وتحت الرمال ماداً يديه ، خاشع القلب ، ساكن الأعضاء ، ممتلئاً رغبةً ورهبةً ، ممتلئاً خشوعاً وخضوعاً ، قائلاً : ( يا فلان مدد ) . ( يا فلانة مدد ) ؟! اللهم إن الدين يبرأ من ذلك كله ويأباه . وإن المسلمين يبرءون من ذلك إلى الله . واحسرة على المسلمين وواحسرة على الإسلام .إنه لم يبق عاقل من عقلاء المسلمين الذين يقام لهم وزن في العلم والأمة يبيح هذا التوسل الذي ينتحله طوائف العامة ، أو يبيح هذه الوثنية الشائعة . وإننا نحمد الله أن أخذت تتقهقر هذه الخرافة في الأيام الأخيرة ، ولم يبق لها من ولي ولا نصير غير جماعات لا يؤبه لهم ، والحمد لله على ذلك .-136-إننا قد ذكرنا في سائر كتبنا البراهين العقلية والنقلية على بطلان هذا التوسل ، وذكرنا هنالك من حجج القرآن والحديث والإجماع والقياس ما يقنع بعضه المنصف بأن هذا التوسل ليس من الدين في شيء .والذي نقوله الآن هو أن حديث خطاب رسول الله لكفار قريش الذين رموا في الطوى لا يدل على أكثر من وجود العالم الروحاني ، وأن لهذا العالم إستقلالا عن العالم الجسماني ، وأنه قد يدرك الخطاب والنداء . ومستحضرو الأرواح الآن يقررون هذا . ولكن لا يدل لهؤلاء المتوسلين وجود العالم الروحاني وسماعه بعض الأوقات على أنه يجوز الإستعانة به . والدعاء له . وذلك أنهى لا يلزم وجود عالم الأرواح أن يكون سامعاً من ناداه ، ولا يلزم إذا قدر عليه أن يكون مأذوناً له بإعطائه من طلبه ، ومأذوناً لنا بأن نطلبه ، ولا يلزم من ذلك كله أن يكون ذلك مباحاً جائزاً ، ولا يلزم بعد ذلك كله ألا يكون منع لأنه يترتب عليه أن ينحل الأموات فوق ما هم له أهل ، كما هو الواقع المشهود . فإننا نرى المتوسلين في عصرنا يسألون الأموات أموراً لا يقدرون عليها وهم أحياء ، ولا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى ، ويقدسونهم ويعظمونهم ويهابونهم ويرجونهم . كل ذلك بأبلغ مما يكون منهم لله وهم بين يديه في الصلاة والمناجاة . ولا شك أن هذا خالص العبادة ولبها ، لا يجوز صرفه لمخلوق سواء أكان حياً أم ميتاً ، وسواء أكان حاضراً أم غائباً . ويدلك على ما نقول أنه لا تجوز لنا دعوة الملائكة ولا دعوة الجن مطلقاً . والملائكة والجن أحياء ، وهم أقدر من الإنسان . وما دعاهم أحد من المسلمين ولا العاقلين . ولم يفهم الصحابة الذين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي كفار قريش وهم أموات أن ذلك دليل على التوسل بالموتى . ولهذا لم يتوسل أحد منهم برسول الله بعد موته، ولم يتوسل أحد من الأئمة الذين رووا هذه الأحاديث وحذقوها بمخلوق ميت. وهذا إجماع سلبي لا يدفع .ولو كان الدعاء يلازم التوسل لجاز التوسل بالأموات الكافرين استدلالا بمناداة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكافرين الذين رموا في الطوى . ومن يجوز هذا من العاقلين . ومستحضروا الأرواح ـ وهؤلاء يحتجون بما يقولون ـ يقولون إن الأرواح -137-مقيدة بأحكام لا يمكن أن تخرج عنها ، وإنها لا يؤذن لها بأن تفعل كل ما تقدر عليه ، وأن تجاوب كل من سألها ، وإنه قد يكون من العدوان عليها ، والإيذاء لها ، أن تنادى وأن تسأل لأنها مشغولة بما هنالك عما هنا .ويدل على أن دعوة الأرواح لا تجوز ـ ولو كانت قادرة وفاعلة ـ أم مستحضري الأرواح يقولون إنهم لا يقدرون على أن يستحضروا الأرواح القوية العظيمة فلا يقدرون على إستحضار أرواح الأنبياء والملائكة . فلماذا هذا ؟! ويقولون : إنه ليس كل أحد صالحاً لدعوة الأرواح واستحضارها .والذي نراه نحن أن هذا الذي يكلم دعاة الأرواح غالباً هم شياطين مضلون لا أرواح من أرادوا مخاطبتهم . وهذا بين لمن تدبر ، وهو يفيدنا فائدتين : إحداهما وجود الأرواح الشريرة وهم الشياطين تصديقاً للأديان ، وتكذيباً للجاحدين الملحدين . وثاني الفائدتين أن نعلم أن دعوة الأرواح واستحضارها ضلال . ولهذا تجاوب الشياطين والشياطين مضلون لا يريدون إلا الإفساد .ثم ألا يكفي هؤلاء علماً ببطلان دعواهم ودعائهم أنهم مهما دعوا وألحوا في الدعاء لا يجابوا ولا يسمعوا ؟! ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذاً لمن الظالمين ) ، ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله مـن لا يستجيب له إلى يوم القيامة ، وهم عن دعائهم غافلون ) . أو ألا يكفيهم أيضاً دليلاً على بطلان توسلهم ما لازمه من الضلالات والمنكرات باعتراف الجميع . ولا ينتج الشر إلا الشر على إن الدعوى التي ادعوها في جانب ، والدليل الذي جعلوه برهاناً على دعواهم في جانب آخر . وذلك أن دعواهم هي أن سؤال الموتى ، ورجاءهم ، والفزع إليهم ، وما مع ذلك من البدع ، دين وحق والذي استدلوا به على هذه الدعوى ليس فيه غير أنهم قد يسمعون بعض الأحايين، وأن أرواحهم موجودة . بل في الحديث نفسه ما يرد على الدعوى . وذلك أنهى يقول : إنهم ليسمعون ، ولكنهم لا يجيبون . ومن لا يجيب كيف يدعي لو يتدبرون ؟! .-138-والكلمة الفاصلة في هذا الحديث: أن الله تعالى جعل في أولئك الكفار القدرة على السماع بأن رد إليهم أرواحهم في تلك الساعة ليسمعوا نداء رسول الله توبيخاً وتحسيراً ونقمة . ولله أن يخرق لرسوله ما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا مانع لما أراد . وقد روى البخاري في صحيحه عن قتادة وهو إمام من أئمة التابعين الكبار ( إن الله تعالى أحياهم له في تلك الساعة توبيخاً لهم وإيلاماً وحسرة . وقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كثيراً من الأحجار والحيوانات فتسمع منه وتجاوبه ، فهل يدل هذا الخطاب والسماع على أن تلك تسمع دائماً ، وعلى أنه يجوز التوسل بها واستغاثتها ؟! ولوضوح هذا عند الصحابة رضوان الله عليهم ، أنكرت عائشة رضي الله عنها حديث مخاطبة الأموات ، ووهّمت رواية وهو الثقة الثبت ، واستدلت بقوله تعالى : ( فإنك لا تسمع الموتى ) ورواه عنها البخاري . وما أنكر الصحابة ولا المسلمون هذا الاستدلال عليها ولا هذه الحجة . وقل لي بربك لو كان دعاء الموتى في ذلك العصر معروفاً مألوفاً ، فهل يمكن أن يخفى على عائشة رضي الله عنها ، أو يخفى على الصحابة والتابعين أن يردوا عليها بذلك ؟! الحق إن الأمر واضح .
الفتن من المشرق
عن عبدالله بن عمر أن رسول الله قام إلى جنب المنبر فقال : ( الفتنة ها هنا . الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ) أو قال : ( قرن الشمس ) وعنه أيضاً أنه سمع النبي وهو مستقبل المشرق يقـول : ( ألا إن الفتنة هاهنا مـن حيث يطلع قـرن الشـيطان ) رواهما البخاري ومسلم . وعنه أيضاً أن رسول الله ? قال : ( اللهم بارك لنا في شأمنا . اللهم بارك لنا في يمننا ) ) قالوا : يا رسول الله وفي نجدنا . قال : ( اللهم بارك لنا في شأمنا . اللهم بارك لنا في يمننا ) قالوا : وفي نجدنا يا رسول الله . فأظنه . قال في الثالثة : ( هناك الزلزال والفتن وبها يطلع قرن الشيطان ) رواه البخاري . وروى مسلم عن سالم بن عبدالله بن عمر أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وما -139-أركبكم للكبيرة . سمعت أبي عبدالله ابن عمر يقول سمعت رسول الله فيقول : ( إن الفتنة تجيء من هاهنا ) وأومأ بيده نحو المشرق ( حيث يطلع قرن الشيطان ) وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض ، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ ، فقال الله عز وجل له : ( وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً ) .يعتمد بعض ذوي الأغراض والأهواء ممن قل نصيبهم من المعرفة والإنصاف على هذه الأخـبار ، فيقـدح في الـدعوة السـلفية التي يقـوم على إنمائها وإعلائها اليوم ، ويدأب في نشـرها وتوسيع نطاقها عاهل الجـزيرة العربية جلالة الملك عبد العزيز آل سعود .وقد حسب هؤلاء وأظهروا للناس أن هذه الأخبار تشير بالفتن والزلازل إلى هذه الـدعوة التي تقول : يجب أن يرجع الخلق كافة إلى الخالق وحده ، وإلا يعتمدوا على سواه ، لا على نبي ولا من دونه ، ولا يأخذوا إلا بالأسباب العادية المشروعة ، وبعد ذلك يرجعون إلى الله فلا يدعون أحداً . والتي تقول : إنه ليس وراء الله للمرء مذهب . وإنه يلزم المسلمين عموماً أن يكونوا كما كان رسول الله ، وكما كان صحابته ومن تبعهم بإحسان بلا زيادة ولا نقصان ، ولا اختراع ولا ابتداع . وإنه يجب أن يقف المسلمون حيث وقف القرآن ، وحيث وقفت السنة , اعتقاداً وعملاً ، بلا تجاوز ولا مغلاة ولا إهمال . وإنه لا بد أن يقيم المسلمون حدود الإسلام وأحكامه وعقوباته وإن غضب الشرق والغرب ، وإن غضب الناس أجمعون ، أو ترك الناس ذلك أجمعون . وإن الإسلام لا يمكن أن يسترجع سالف مجده ، وأن ينهض النهوض المرموق إلا إذا عمل المسلمون بكتابهم وبسنة رسولهم .نعم حسب هؤلاء وأوهموا بعض الأغرار أن هذه الأحاديث النبوية تشير إلى ذم هذه الطائفة وإلى ذم إصلاحها الذي جاءت به ، والذي شكرها العاقلون عليه كافة وترنموا بمدحه وإطرائه في شرقها وغربها .ونحـن هنا نذكر ما ذكره العلماء شراح الأحاديث في هذه الأحاديث ، وما فسروها به ، ليبصر الحق مريدوه . وما علينا بعد ذلك أن يعاند معاند ، أو يكابر مكابر ، أو يغضب -140-غاضب . ولنقتصر على ما ذكره أشهر شراح الحديث في شرح أشهر كتاب حديثي وأصحه وهو ( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) للحافظ ابن حجر العسقلاني قاضي قضاة مصر في عصره ، وهو منقطع النظير في فنون الحديث وروايته في زمنه . ولم يشرح البخاري فيما نعلم مثله . ولم يأت بعده حسب معرفتنا من يجاريه أو يدانيه في علم الرواية . قال في الجزء السادس صفحة 220 بعد قوله رأس الكفر نحو المشرق : ( وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس . لأن مملكة الفرس ، ومن أطاعهم من العرب ، كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة ، وكانوا في غاية القوة والتكبر والتجبر ، حتى مزق ملكهم كتاب النبي كما سيأتي في موضعه . وإستمرت الفتن من قبل المشرق كما سيأتي بيانه واضحاً في الفتن ) . ثم قال في كتاب الفتن صفحة 10 الجزء الثالث عشر بعد حديث إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر ( وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها ، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان ، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين ، وكل قتال وقع في ذلك العصر تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد منه . ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم . وأول ما نشأ ذلك من العراق ، وهي من جهة المشرق فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي إن الفتن من قبل المشرق ) . ثم قال في الجزء الثالث عشر صفحة 36 ( كان أهل المشرق يومئذٍ أهل كفر فأخبر ? أن الفتنة تكون من تلك الناحية ، فكان كما أخبر . وأول الفتن كان من قبل المشرق ، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين , وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به . وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة . وقال الخطابي : نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها , وهي مشرق أهل المدينة . وأصل النجد ما ارتفع من الأرض وهي خلاف الغور فانه ما انخفض منها وتهامة كلها من الغور ، ومكة من تهامة . انتهى . وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي : إن نجداً من ناحية العراق , فإنه توهم أن نجداً موضع مخصوص ، وليس كذلك ، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدا والمنخفض غوراً انتهى كلام ابن حجر .-141-ونحن نقول بعد ذلك : إننا إذا طالعنا الخرطة وجدنا العراق شرقا عن المدينة شمالاً ووجدنا بلاد العجم شرقاً شمالاً عن المدينة أيضاً . وإذا ما كلفنا أنفسنا ساعة من الزمن وقرأنا شيئاً من تاريخ الفتن التي وقعت في صدر الإسلام زمن الخليفتين عثمان وعلي وزمن من بعدهم من الخلفاء والأمراء وجدنا جميع الفتن في غير نجد ، ليس لنجد منها شيء . وكلها ولد وفرخ في العراق والشام ومصر وبلاد فارس . وليس هنالك فتنة أعظم من قتل عثمان وعلي وعمر رضي الله عنهم ، وأعظم من القتال بين الإمام علي ومعاوية ، وبين الإمام علي ومعاوية ، وبين علي والخوارج ، وبين علي وعائشة . وليس لنجد من ذلك شيء ولا غمست يدها في قليل ولا كثير من دمها . وكذلك إذا ما تعقبنا التاريخ من ذلك العصر إلى هذا العصر لم نجد في نجد من الفتن والزلازل ما وجدناه في مصر والعراق والشام وسائر البلاد ولا يمكن أن يكابر في ذلك مكابر .لنفرض أن الدعوة السلفية الموجودة الآن في نجد هي ضلال وباطل . وأعاذها الله من ذلك . فهل يمكن أن تكون أحق باسم الفتن والزلازل من الإلحاد والتنصير والفسوق والخلاعة الموجودة في سائر البلاد الإسلامية اليوم ؟! فهل يمكن تنزيل الأحاديث المذكورة على نجد دون هذه البلاد التي انغمست في هذه الرذائل من قدميها إلى رأسها ؟! وهل يقول ذلك إلا من لم يرزق شيئاً من الإنصاف والعدل .ولفظ الفتنة عند ما يطلق يعبر عن الحروب والقتال ونحو ذلك ولا يعبر عن الآراء والعقائد الفاسدة . فلو سلمنا أن هذه الأحـاديث تعني نجداً وتعني أنها موقع للفتن والحروب ، ولن نسلم ذلك , لم يدل على أن تلك العقيدة باطلة وضلالة ، وإنما يدل على أنه يحدث فيها أحداث وحروب داخلية ، وهذا لا شك فيه . ونحن لا نخالف أنه قد وجد في نجد حروب بين المسلمين لا يرضاها الله ولا يرضاها دينه ولا يرضاها النجديون أنفسهم ، مثل ما وقع من الدويش وإخوانه حتى قضى جلالة الملك عبدالعزيز على ذلك وجذ جذورهم واستأصل شأفتهم . وأي بلاد خلقها الله تسلم من ذلك . ويبين ذلك أنه روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشرف على أطم من آطام المدينة فقال : ( هل ترون ما أرى ) قالوا لا . قال ( فإني لأرى الفتنة تقع خلال -142-بيتكم كوقع القطر ) فإن كان وجود الفتن في بلد دليلاً على فساد عقيدة ذلك البلد دل على فساد عقيدة ذلك البلد دل هذا الحديث على فساد عقيدة أهل المدينة المنورة .وأيضاً لا شك أنه ما من بلد إلا ويوجد فيها فتن وزلازل وشياطين . فهل يدل ذلك على فساد عقائد الجميع . وقد حدث في سائر البلاد من الأمور القبيحة والعقائد المغضوب عليها ما لم يوجد في نجد . فهل وجد في نجد ما وجد في غيرها من البلاد ، وفيها من إدعى الربوبية وقال لأهلها ( أنا ربكم الأعلى ) فقالوا له سمعاً وطاعةً وكرامةً . وأيضاً إن كانت هذه الأخبار دليلاً على فساد العقيدة بالجملة لم تدل على أن ذلك الفساد , وتلك العقيدة الفاسدة , لن تزول ولن تفارق أهلها ، وإنما تدل على وجودها بالجملة . ولا ننازع في هذا . فقد كان أهل نجد مشركين قبل رسول الله عليه السلام كما كان غيرهم . وقد كفر طائفة منهم بعد موته عليه السلام واتبعوا مسيلمة الكذاب . ويبين ذلك أن العقيدة التي ينقم منها هؤلاء هي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب . وهذه الدعوة ما وجدت في نجد إلا منذ قرنين تقريباً . وأما قبل ذلك فأهل نجد كانوا كغيرهم يتولون ما تولى سائر الناس ، وهم ذلك الوقت وفي تلك الحال عند هؤلاء مهتدون راشدون ليس عندهم فتن ولا زلازل بل هم موحدون حقاً وراشدون حقا . فهذه الأحاديث ، بعد كل تنازل وتواضع ، لا تدل إلا على أنه يضل منهم فريق . ولا ننازع في هذا إجمالاً . وعلى هؤلاء أن يبرهنوا أن الدعوة الموجودة الآن في نجد هي ضلال وفتنة ، وأين هم من ذاك ، وأن يبرهنوا أنه ليس ما خالفها من البدع والخرافات ضلالاً وخرافة .وبعد . فقد قال في القاموس ( النجد ما أشرف من الأرض . الجمع أنجد وأنجاد ونجود ونجد . والطريق الواضح المرتفع وما خالف الغور أي تهامة، وتضم جيمه، مذكر. أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام وأوله من جهة الحجاز ذات عرق ) .ومما يلحق بهذا ما يستدل به بعض الجهلة وهو بعض ما يذكره بعض أهل السيرة ـ إن صحت الرواية ـ أن المشركين لما اجتمعوا في دار الندوة للتآمر في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القضاء عليه ليخلصوا من دعوته جاءهم الشيطان في هيئة شيخ وقور تقي ، وادعى لهم أنه من أهل نجد جاء ليبدي رأيه في هذه المشكلة التي شغلت -143-رؤوس قريش ، وهي مشكلة محمد عليه السلام ودعوته ، فرحبوا به ، وأدخلوه معهم ، وهم لا يدخلون في مثل هذه الحال طبعاً إلا من يظنونه من ذوي الدهاء والرأي والحنكة ، فأخذوا يديرون الآراء ، والشيخ النجدي ـ كما زعم ـ يرجعها عليهم رأياً رأياً مبيناً لهم ضعفها وسخفها ، إلى أن أقر لهم رأي الأخير وجوده ، وهو أن يأتوا من كل أسرة من أسر قريش الشريفة بفتى مارد جريء ويعطوه سيفاً صارماً ، ثم يضربوا رسول الله عليه السلام بسيوفهم المرهفة ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في الأسر فيهدر . فتفرقوا على ذلك مصممين عليه .قال هؤلاء الجهلة : إن تمثل الشيطان بصورة شيخ نجدي دليل على فساد عقيدة النجديين . وهذا جهل فاضح . والقصة لا تدل على أكثر من أن قريشاً ، وهم من نعرف أهل النخوة والادلال والإعجاب بالرأي ، وهم مضرب المثل في الذكاء وصحة الفكرة وتوقد القريحة وسلامة الرأي ، يسلمون لرجال نجد الزعامة السياسية ، والإمامة الدينية ، ويسلمون تفوقهم عليهم بالآراء والدهاء . ولهذا أدخلوا الشيطان حين ما انتسب إلى نجد وادعى أنه نجدي ، وأشركوه في ذلك الحفل الذي جمع زعماء قريش ورؤوس ساستها ، وجعلوا قوله هو القول ، ورأيه هو الرأي . ويدل أيضاً على أن الشيطان يعرف للنجديين ذلك ، ويعرف أن قريشاً تعرفه لهم ، وهذا غاية التعظيم والمدح للنجديين خلاف ما ظن هؤلاء . ولو كان يعلم أنه إذا انتسب إلى غير نجد أدخلوه وقبلوه لما وجد مانعاً من أن ينتسب ، ولعله لو فعل ذلك لطردوه .والشيطان قد يتصور في صورة ويقول : أنا رسول الله . ويتصور في صور العلماء والعباد المعروفين بالإمامة والدين . يفعل ذلك للإضلال والإغواء . وقد يجيء بعض الناس ويقول له : أنا الله ، وقد أحللت لك كذا وكذا مما حرمت على غيرك ، ليفسد على ذلك الإنسان دينه وعقله . فما في انتساب الشيطان إلى بعض الناس أو بعض البلاد نقص في ألئك الناس ولا تلك البلاد ، والعكس أقرب . فإنه غالباً يتصور بصور الصالحين ، أو من يظن أنهم صالحون ، ليستطيع التغرير والتضليل . وقد رووا أنه جاء إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني الصالح المشهور وقال له : أنا رب العزة يا عبدالقادر . وقد أحللت لك كذا وكذا -144-مما حرمته على غيرك . فقال له الشيخ عبدالقادر : إخسأ . أنت الشيطان الرجيم فقال الشيطان : نجوت مني يا عبدالقادر بفقهك ، ولقد أضللت بهذا خلقاً كثيراً من العباد والزهاد . والله أعلم .فياليت قلبي في صدور لوائميرجعت ولكن لا إلى حكم حاكم تريد من الأيام مـا ليس كائناً ولـم تجـمع الأيام للمـرء مـرة قضى الله أن الأمر والنهـي والغنى وأن يقدم السـباق كل مؤخـــر وما كان هذا الـداء في الناس حادثاً شــكاه الألى كانوا تولوا وبعـدنا فان كنت ترضى بارد العيش فانسلخ فاني رأيت الضر والعقـل أصـبحا تحاول إرضـاء الحسود ولـم يكن وماذا رأى الحسـاد عندك غـاظهم حسدت على الروح التي قد سئمتها ولو كان حسادي يطيقون حمـلها رويدك بعض الشكـو ما ثمَّ سـامع ومـا أنت لاق عـادلا تشـكي له فكل بني الدنـيا بغـاة وجـدتهم أضعت رجاء كنت جهـلا حمـلته -145-فما سمعوا شكوى جهـيراً خطابها ولاحفـظوا وداً ولا حفـظوا يداً عفا الله عنهم مـا شكوت وما شكا ومـا أخـروا حراً أغـر مقـدماً ومــا ضيعوا الآداب والعلم والعلا ألـيس عـجيباً أن تضيع بأمــة وأن تمنع المـاء القـراح ويرتوي شؤون بها ما في فؤادي من الضنى فيشكوا كما أشكو مـن الغيظ والأسى وعذّت ولكن في شدوق الأراقم1سـعادة محمود لدى الجد عالمذكاء وحظاً ، فاحترق أو فقاوملكل بليد القلب قسمة قاســمعن المجد والعلياء عند التزاحمولكنه في الناس من عصر آدمسيشكوه منهم كل أروع حازممن العقل واستلهم نفوس البهائمقرينين من راض بهـذا وناقـمليرضيه إلا أن ترى في الرمائم2وقد أصبحت دنياك أبكى المآتموما الروح إلا الريح ذات السمائملجدت بها ، فعلي ببذل الـدراهمولا ثم مـرجو لكسـب المـكارمولا دافعاً مـن مرهقات المظالمفهـم ظالـم باغ يعـوذ بظالـمعلى معشر كانوا جنود المغـارمولا حذروا من ذاهبات الـملاومجذذت بها زند العـدو المصادملك العلم فيهم حظوة المتعالموما قـدمـوا غِراً لوجه العظائمبما استحفظوها في العيون النوائموتحفظ فيهـا سارحات السوائم3من الأمل المعسول صفر البراجمفياليت قلبي في صدور لوائمي ويعذرني فيما تكلمت لائمي